قطوف تربوية مستوحاة من تفسير سورة الفاتحة
سورة الفاتحة من أعظم سور القرآن الكريم فأسرارها لا تنته , وكم نحتاج للتأمل في الهدايات التربوية والمعاني الأخلاقية التي تتحدث عنها هذه السورة .
قطوف تربوية مستوحاة من تفسير سورة الفاتحة |
تعتبر الفاتحة كمثابة مقدمة للقرآن الكريم فهي فاتحته , وهي أمه التي ترجع كل معاني القرآن إليها , فهي قد تضمنت محورين رئيسيين للقرآن الكريم وهما :
- الثناء على الله بحمده وذكر أخص اوصافه من ربوبيته وألوهيته ورحته , فالآيات الثلاث الأولى قد تضمنت هذا الثناء وهو المقطع الأول من مقاطعها .
- التوجه إلى الله عز وجل رغبة ورهبة ومحبة وإجلالا , وذالك في المقطع الثاني منها فيتوجع العبد لربه بتعظيمه بالعبادة وطلب العون والهداية .
فكمال التربية والأدب مع الله عز وجل أن تتعرف عليه بعبادته وحبه , والثناء عليه بأسمائه الحسنى وصفاته العليا , ويمكن تفصيل هذين المحورين لعناصر أساسية يسعى القرآن لتقريرها في سلوكيات المسلم , وهذه العناصر هي :
- معرفة الله عز وجل بألوهيته وربوبيته وما يليق به من أسماء وصفات .
- الإيمان باليوم الآخر .
- عبادة الله عز وجل .
- الإستعانة به في تأدية حقه ( قوة عملية ) .
- طلب الهداية منه ( قوة علمية )
- ذكر طرفي الإنحراف والتحذير من التشبه بسلوكاتهم
فمحاور القرآن الكريم لا تخرج عن هذه العناصر . فهو إما حديث عن الله وعن اليوم الآخر , أو أمر للناس بتوحيده , وإما بيان لصراط الله المستقيم الذي هو دينه وشرعه , وإما بيان لسبل الضلال والغي وهي نقيض صراطه المستقيم , وإما قصص عن الفريق الذي أنعم الله عليه , أو قصص عن الفريق الآخر وهو الضال المغضوب عليه .
تفسير المقطع الأول من سورة الفاتحة
يبدأ هذا المقطع من بداية السورة حتى قوله تعالى (( مالك يوم الدين )) , والذي يتميز به هذا المقطع أن كل آياته تتضمن الثناء على الله عز وجل بذكر أخص صفاته . وأول معنى تربوي وأدب يتعلمه المسلم هو أدب الحمد , والحمد ثناء يثني به العبد على ربه وحمد الله نوعان :
- ثناء العبد على الله بذكر جميل صفاته ونعوت كماله وجماله وجلاله .
- ثناء العبد على إحسان الله إليه وهو من الشكر , فالسلوك الأول الذي ينبغي أن ييتحلى به العبد أن يحمد الله عز وجل على كل نعمة أسداها الله له , بل عليه أن يحمده على كل حال ففي الحديث الذي صححه الشيخ الأباني في صحيح الجامع أن النبي صلى الله عليه وسلم :
(( كَانَ صلى الله عليه وسلم إذَا أَتَاهُ الأمْرُ يَسُرُّهُ، قَالَ : (( الـحَمْدُ للـهِ الَّذِي بِنِعْمَتهِ تَتِمُّ الصَّالِـحَاتُ ))، وإذَا أتَاهُ الأمْرُ يَكْرَهُهُ، قَالَ : (( الـحَمْدُ للـهِ عَلَى كُلِّ حَالٍ ))
فالحمد كلمة تحمل معنى العبودية التامة والحب والثناء والشكر والعرفان , فالحمد يكون في القلب حبا وتعظيما لله عز وجل , ثم تظهر آثاره على اللسان والجوارح .
وقد جاء التعبير بجملة إسمية الدالة على الثبوت والإستقرارفقال (( الحمد لله )) , فحمد الله لا يرتبط بزمان ولا مكان ولا بأشخاص فهو محمود على كل حال . وقرن الحمد باسم ذاته (( الله )) الإسم الأعظم الذي ترجع كل الأسماء إليه تنبيها على أنه محمود لذاته فهو :
- محمود قبل حمد الحامدين
- محمود حتى وإن ترك الناس أجمعين حمده
- محمود في الأزل وفي كل زمان وفي كل مكال فله الحمد في الأولى والآخرة .
فقد تضمنت هذه الآية تربية للمؤمن على أن يكون مستديم الحمد والشكر لله عز وجل , فلا يلحظ لنفسه فضل بل لله الفضل جميعا . فهو (( رب العالمين )) الذي ربي خلقه بدقائق النعم وجليلها . والعالمين جمع عوالم وهو إسم لما سوى الله عز وجل , وتربيته لخلقه عامة لاشاملة لكل مخلوق حفظا ورعاية , وتربية خاصة بالهداية والتوفيق والإرشاد . والسر في ذكر اسم الرب بعد ذكر إسم الله أن الإلاه الحق لا يكون إلا ربا , فالرب هو الذي ينبغي أن يعبد ويحمد .
ثم يذكر الله عز وجل صفتين من صفاته فقال (( الرحمن الرحيم )) , وفي الحديث القدسي أن العبد في صلاته إذا قالها . رد الله مفتخرا بعبده (( أثنى علي عبدي )) فذكر الله بصفة الرحمة ثناء خاص من العبد , والرحمن وكذا الرحسم إسمان من أسماء الله عز وجل أحدهما أرق من الآخر كما قال ابن عباس . فالرحمن أي ذور الرحمة الواسعة والرحيم أي الذي يرحم عباده برحمته .
ورحمة الله عامة لجميع خلقه في الدنيا والآخرة , وللمؤمنين اختصاص بها في الآخرة (( وكان بالمؤمنين رحيما )) . ومن مظاهر رحمة الله إرسال الرسل وعلى رأسهم خاتم الأنبياء فهو رحمة مرسلة , ومن مظاهرها إنزال الكتب وأشرفها القرآن الكريم فمن علمه الله القرآن فقد أفاض عليه من رحمته فقد قال (( الرحمن علم القرآن )) . أما عن الأسرار التربوية التي ترشدنا إليها هذه الآية :
- الصلة بين الخالق والمخلوق صلة رحمة , فرحمته تغلب غضبه كما في الحديث الصحيح . فقد يظن الظان أن مقتضى الربوبية معاملة الخليقة بالقهر والسيطرة , فجاء ذكر رحمة الله بعد قوله (( رب العالمين )) ليبين أن ربوبيته ربوبية رحمة .
- من أهم وسائل التربية الترغيب والترهيب , فمقتضى الربوبية الرهبة ومقتضى الرحمة الرغبة , ولكن الرحمة واللين والعطف هو ملاك ذالك وهو أصل التربية وما كان اللين في شيئ إلا زانه أي زينه .
وأما قوله (( مالك يوم الدين )) ففي الحديث القدسي أن العبد إذا قالها . أجاب الرب بقوله (( مجدني عبدي )) والتمجيد التعظيم , فالعبد هنا أفرد الله عز وجل بالملك . وفي الآية قراءتين فقراءة (( مالك )) تدل على أنه صاحب ملك , وأما قراءة ملك فدالة على أنه صاحب حكم , فالله جامع بينهما . وحقيقة الملك عطاء ومنع , إكرام وإهانة , عقوبة وإثابة , رضا وغضب وفي التنزيل الحكيم :
حقيقة الملك في آية آل عمران |
وقد خص الله عز وجل ذكر الآخرة بالملك دون الدنيا في الآية مع أنه مالك لكليهما , لأن الدنيا قد يملك فيها البعض فيعتقد أنه المالك حقيقة كما ظن فرعون والنمرود , وأما الآخر فملك الله ظاهر لا ينازع فيه أحد . وأيضا من أسرار إضافة الملك ليوم الدين إرشادنا للإهتمام به , فهذا أدب تربوي لنفس المؤمن أن يتذكر الآخرة ويسعى إليها .
- من أعظم كليات الشريعة الإسلامية وأصولها الإعتقادية الإيمان باليوم الآخر
تفسير المقطع الثاني من سورة الفاتحة
يبدأ هذا المقطع من إلتفات بديع في الخطاب , فالخطاب التفت من حال الغيبة إلى حال الحضور . وبدأ العبد بعد الثناء بذكر سر من أسرار السورة بل هو سر الدين كله , وهو الغاية التي خلق لأجلها الإنس والجن فقال (( إياك نعبد وإياك نستعين )) , وهذه الآية جاءت بين الثناء والدعاء , وفي الحديث القدسي أن المصلي إذا قالها قال الرب (( هذا بيني وبين عبدي ولعبدي ما سأل )) .
فالآية سر العبد مع ربه فقوله (( إياك نعبد )) تبرؤ من الشرك فقد قدم المعمول على العامل لإفادة الإختصاص والحصر أي لا نعبد إلا إياك , وقوله (( إياك نستعين )) تبرؤ من القوة والحول واعتراف بالعجز والحاجة , فهذا السؤال الذي قال فيه الرب ولعبدي ما سأل . فقد تضمنت الآية مقامين للعبد من أعظم المقامات مقام العبودية القائم على الإخلاص والمتابعة , ومقام الإستعانة الذي يجمع أصلين شريفين الثقة بالله والتوكل عليه . ومن الأسرار التربوية والآداب الإسلامية التي دلت عليها الآية
- التأدب مع الله عز وجل في العبادة بجعل الفضل له في التوفيق .
- العبودية الكاملة لله عز وجل لا تقوم إلا بالجماعة . فالدين الإسلامي دين الجماعة ويد الله مع الجماعة .
- إخلاص العبودية لله عز وجل من أهم الجوانب التي ينبغي للمؤمن أن يربي نفسه عليها .
- مقام العبودية عبودية لله عز وجل ولكنه تحرر من هوى النفس وأسر الشيطان .
ثم يتحول العبد من الثناء إلى الدعاء فيقول (( إهدنا الصراط المستقيم )) والصراط هو الطريق الواضح البين , وقد تركنا رسول الله على بيضاء ليلها كنهارها , وقد جاء الصراط معرفا لأن دين الله سبيل واحد وسبل الشيطان متفرقة . فمن أعظم نعم الله عز وجل على عبده الهداية لهذا الصراط . فمن هداه إليه فهو من أهل النعمة .
وأما من ضل السبيل عن صراطه فقد ضل وغضب الله عليه , فدعاء المؤمن أن يجنبه سبل الضلال والهلاك (( غير المغضوب عليهم ولا الضالين )) , وأسباب الضلال الجهل والهوى وعلاجهما العلم والتزكية .
ثم تأمل أخي المسلم كيف علمتنا هذه السورة أدبا تربويا في فن الدعاء , فقد بدأت بالثناء على الله بما هو أهله ثم ثنت بالدعاء, فمن آداب الدعاء الثناء على الله أولا . وقد سمع النبي رجلا يدعوا دون أن يثني على الله ويصلي على رسوله فقال النبي (( عجل هذا )) ثم بين أن الداعي يبدأ بمد الله والثناء عليه ثم يصلي على رسول الله وبعد ذالك يدعوا بما يشاء