التوفيق الإلاهي في زواج النبي من خديجة دروس وعبر
إن تغيير العقول والقلوب أصعب من زوال الجبال , لذا كانت مهمة الرسل والأنبياء والمصلحين من بعدهم من أشد المهمات صعوبة , إن قلوب الأنبياء وأنفسهم صافية حساسة بعناية الله عز وجل , فما أحوجهم للإيناس والترفيه والمعونة في حياتهم الخاصة , وقد كانت خديجة بنت خويلد مثالا طيبا للمرأة المكملة لحياة الرجل العظيم , لقد كان زواج النبي من خديجة توفيق رباني وراءه أسرار شتى .
من هي خديجة زوج رسول الله
خديجة بنت خويلد بن أسد بن عبد العزى , هذه المرأة التي عُرفت بطهارة النفس وحسن الأخلاق وكمال العقل وعراقة النسب يلتقي نسبها بنسب النبي صلى الله عليه وسلم في جده الخامس , لقبت بالطاهرة في مجتمع وصف بالجاهلي فهي ذات مكانة وشرف شخصي وعائلي , فقد تربت في بيت مجد وخلق ونشأت على فضائل الأخلاق .
لقد كانت خديجة من قلائل نساء قريش اللاتي حباهن الله بالمال والتجارة , فقد كانت مطمع الكثير من الرجال ومرمى عيونهم طلبا للزواج , وفي سن الأربعية كانت بلا زوج وقد تزوجت قبل ذالك برجلين أحدهما أبو هالة ابن زرارة التميمي والثاني عتيق بن عائد المخزومي , ورفضت خديجة الزواج بعدهما بأي من رجال قريش وشرفائها وأغنيائها وآثارت الزواج بشاب فقير من عامة المجتمع لأخلاقه وصدقه .
كيف كانت بداية قصة الزواج
يذكر كتاب السيرة أن يهوديا جاء مكة فأخبر مجموعة من نسائهم أن نبيا يكاد أن يخرج بينهم , فمن إستطاعت أن تظفر به فلتفعل , فأغلضن له القول وقبحنه إلا خديجة فأبقت على كلام الرجل في نفسها .
ولما إشتهر أمر شاب من شباب قريش بالصدق والأمانة وحسن الأخلاق , ولم يكن ذالك الشاب سوى محمدا صلى الله عليه وسلم , أرسلت له طالبة منه المتاجرة بمالها ورسول الله ليس له خبرة في ميدان التجارة ينافس بها كبراء القوم وفحولهم , وفيهم من قضى عمره تاجرا , فكيف لخديجة أن تخاطر بمالها ولكنها الفراسة أو لشئ في نفسها تخفيه فهي تراقب وتترصد , وما قيمة المال أمام الأخلاق والرجولة .
قبل محمد بهذا العرض , وكان لخديجة معه رسول هو خادمها ميسرة يراقب العير وتصرفات النبي الكريم , ولما عادت التجارة عادت مثقلة بالربح الذي لم يحصله أذكى التجار , وحدثها ميسرة عن صدق رسول الله وعن علامات التميز الذي توحي أنه ليس بشرا عاديا , فعلمت أنها الفرصة التي لا تترك , وعلمت أنه الرجل المناسب الذي غفلت عنه النساء وغفل عنه الرجال ليكون زوجا لبناتهم , فخديجة هي التي خبرت رجلين قبلها عشرة وزواجا , وخبرت رجالا كثر في التجارة والمال .
سارعت خديجة لصديقة لها تسمى نفيسة لتخبرها برغبة ملحة في الإقتران بسيد الأخلاق والفضائل , فسارعت صديقتها بدورها لتفاتحه بموضوع الزواج , ولتعرض عليه العفيفة الطاهرة ليكونا أفضل ما خلق الله عز وجل من أزواج فقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم واستشار أعمامه فخطبوها له .
كيف كان حفل الزواج
لقد تولى عمه أبو طالب وعمه حمزة خطبة خديجة من عمها ورقة بن نوفل في سرور تام من عائلتين معروفتين بالطهارة والشرف , وقد وقف أبو طالب خطيبا فحدثهم عن شرفهم وذكرهم بنسبتهم الطاهرة إلى أبيهم إبراهيم عليه السلام , ثم ذكر شرف بني هاشم وما حباهم الله من خدمة للبيت وللحجيج , ثم تحدث عن أخلاق رسول الله وكمال عقله وتميزه عن فتيان قريش مع قلة ماله إلا أن قلة المال لا تحط من قدر من رفعه الله بسمو أخلاقه وكرم فضائله .
رد ورقة بكلام مثله وتمت الخطبة , ودعي الناس للزواج الذي كان بسيطا في مظهره عظيما في جوهره , فليس نجاح الزواج بفخامة اللباس أو بكثرة المأكولات والمقتنيات ولا بالأصوات الصاخبة , وليس نجاح الزواج بسرور يوم دون مراعاة لحق الله بأن لا ترتكب فيه المحارم , أو مراعاة لحق الناس بإزعاجهم , فتم الزواج في هدوء تام وسط بركة من الله عز وجل فياليت الشباب يعي اليوم أن نجاح الزواج وسروره ليس يوما واحدا , بل هو عمر بأكمله وأن بركات الله لا تحل في مكان فيه يعصى .
هل الحب والتعارف قبل الزواج شرط لنجاح العلاقة .
لم يكن بين رسول الله والعفيفة الطاهرة علاقة إتصال ولا لقاءات حب تخللتها أشعار وتعابير عشقية تتحدث عنها العرب وتستشهد بها , إنه كان خيار العقل التام بعد تأكد مسبق من الأخلاق الفاضلة التي يتصف بها كل منهما , ومع ذالك فبعد الزواج عاش في حب ووفاء يملؤهما الإحترام المتبادل , فلم تكن خديجة بمالها مع فقر زوجها تلك المراة المتسلطة التي تذهب للرجل قوامته ورجولته , بل كانت تلك الزوجة المحبة المساندة , ألا ترى حين عودته يرتعد من شدة ما وجد في غار حراء فقد قالت بصوت مشفق محب داعم له (( كلا والله لا يخزيك الله أبدا )) , وقد كان لها محبا ذاكرا لوفائها وحسن عشرتها حتى بعد وفاتها وزواجه من غيرها , فقد قالها يوما لعائشة وهي أحب النساء إليه (( والله ما أبدلني الله خيرا منها )) وعدد فضائلها وأخلاقها .
إن من الآفات التي أصابت شبابنا وشاباتنا اليوم ظنهم أن لا سبيل لنجاح الزواج إلا بحب قبلي وعلاقة مسبقة , وبئس تلك العلاقة فطالما ملأها الخداع والكذب فكل منهما يزين نفسه للآخر حتى إذا إلتقيا تفاجأ , وكثيرا ما تخللت هذه العلاقة محرمات من كلام وجلوس وخلوة , وكثيرا ما أفسدت هذا العلاقة بين البنت وأهلها , إنها هجمة ثقافية غربية عن طريق مسلسلاتهم وتمثيلاتهم الساقطة التي غيرت كثيرا من المفاهيم عندنا إن مجتمعنا مجتمع قيم وأخلاق فلا نفسده بتلك الروافد الفاسدة .
دروس وعبر من زواج النبي من خديجة .
إن من اهم ما يتصف به المرء الصدق والأمانة , وهما صفتان مهمتان في التاجر وهما سر النجاح ففي الحديث :
عَنْ أَبِى سَعِيدٍ , عَنِ النَّبِىِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ : ( التَّاجِرُ الصَّدُوقُ الأَمِينُ مَعَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ ) السلسلة الصحيحة
لم يكن النبي يهتم بالمتعة الجسدية فقد تزوج أربعينية , ولم يتزوج شابة بكرا يستمتع بها فلم يكن ذالك الرجل الشهواني الذي تهمه شهوته على حساب حياته , كما انه لم يكن ذالك الرجل المادي الذي يغلبه الطمع , فمع أنه عاش مع امرأة غنية إلا أنه لم يكن عاشقا للمال مفضلا له على الأخلاق والقيم .
خديجة هي توفيق من الله لنبيه لتكون له عونا على الرسالة , فكمال عقلها وصفاء نفسها كان سندا له ومزيلا لهمومه وموقفها بعد رجوعه من غار حراء لأفضل شاهد , فلو كانت شابة لربما اضطربت ولم تحسن التصرف في ذالك الموقف الصعب .
لقد ذاق النبي مرارة فقد الأنباء فكل أبنائه الذكور ماتوا صغارا , فقد رزق من خديجة ابنين القاسم وعبد الله ولكنهما ماتا , ولله في ذالك حكمة بالغة فالسر في فقد الذكور كي لا يكونوا فتنة بعد وفاة النبي . ولقد رزقه الذكور تكميلا للفطرة البشرية وكي لا يتهم في رجولته كما هي عادة العرب .