التيسير الفقهي في الشريعة أدلته ومظاهره أنواعه
من مقاصد الشريعة الإسلامية الكبرى التيسير ورفع الحرج , ولهذا المقصد أدلة من الشرع تبلغ به حد القطع , وقد تنوعت الأدلة الدالة عليه من قرآن وسنة وإجماع وعمل الصحابة , وله في الأحكام الشرعية والقواعد الأضولية مظاهر متعددة , ولا شك أن للتيسير ورفع الحرج غايات وعوائد مقصودة من التشريع .
المراد بالتيسير الفقهي الأخذ بالأخف من أقوال الفقهاء , أو أخف الإحتمالات عند الإستنباط , إذن فالتيسير الفقهي إما أن يكون عند النظر إلى أقوال الفقهاء مجردة عن دليلها , فيختار منها الأيسر والأخف , وإما أن يكون فيما دلت عليه الأدلة المحتملة فلو أن الأدلة جعلت الحكم محتملا بين الكراهة والتحريم أخذنا بالكراهة لأنه الأيسر والأرفق .
وبالتالي فيمكننا القول إن التيسير الفقهي قد يكون مقبولا , إذا وافق أصول الشرع وقواعده ونصوصه , وأما إن كان مخالفا لما ذكرناه فلا شك أنه من التيسير المذموم .
اليسر ورفع الحرج من أبرز مظاهر الشريعة الإسلامية .
لا شك أن اليسر ورفع الحجر من مقاصد الشرع الكبرى , ومظهر من أهم مظاهرها , وقد دل على هذا أدلة الكتاب والسنة واستقراء جزئيات الشريعة , ويمكن إجمال هذه الأدلة في :
- نصوص من القرآن الكريم وهي كثيرة , فتارة تأتي بلفظ رفع الحرج والعنت وتارة بلفظ التخفيف , وتارة أخرى بذكر اليسر , ولعلى أبرزها قوله تعالى (( يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر )) .
- نصوص من السنة النبوية وهي متنوعة وكثيرة , من أبرزها قول النبي صلى الله عليه وسلم (( إن الدين يسر )) , وقوله (( يسرا ولا تعسرا )) .
- أقوال الصحابة وأفعالهم , وهذا مبثوث في أقوالهم وأفعالهم , حتى قال عمر بن إسحاق وهو يحكي عن حالهم (( فما رأيت قوما أيسر سيرة , ولا أقل تشديدا منهم ))
- الإجماع وقد نقله غير واحد من أهل العلم .
- الإستقراء فالمتأمل سيجد ولا شك جملة من المظاهر الدالة على قصد التخفيف والتيسير , ومراعاة أحوال المكلفين , فمن ذالك التدرج في تشريع الأحكام , وتقليل التكاليف ويسرها , واشتراط الإوغيرهاستطاعة , وفتح باب الرخص , وتشريع قواعد للتخفيف كالمصالح المرسلة والإستحسان والعرف وغيرها .
الحكمة من جعل أحكام الشريعة تتسم باليسر
جعل الله عز وجل صفات طبعية في الإنسان ثم راعى هذه الصفات أثناء تشريعه , فقد خلق الإنسان ضعيفا قال تعالى (( يريد الله أن يخفف عنكم وخلق الإنسان ضعيفا )) , فالتيسير الذي تتسم بها أحكام الشرع يعود بعوائد الخير على الإنسان بالدرجة الأولى , فيأنس بتعاليم الدين ولا ينفر منها , وتستقيم حياته بلا مشقة , وله عوائد أخرى نذكر منها :
- التمكين لفقه الدليل فقد دل الإستقراء أن الأحكام الفقهية المبثوثة في كتب الفقه , والتي تتسم بسمة التشدد والحرج قد خالفة الدليل , إما بتأويلات باطلة نصرة للمذهب أو جهل بالأدلة , فالعودة للأخذ بالدلة عودة للتيسير ورفع الحرج عن المكلفين .
- محاربة البدع والتضييق عليها فكثيرا ما كان الإبتداع في الدين مضادا للتيسير .
- تحقيق وسطية الدين فلا إفراط ولا تفريط .
- القضاء على الغلو وتشويه الدين , ورعاية مصالح الناس بتسهيل تحقيقها .
- المداومة على الطاعة والعمل , فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (( مه عليكم بما تطيقون , فوالله فإن الله لا يمل حتى تملوا ))
- تحقيق قصد الشارع من التكاليف .
- بيان محاسن الشريعة واستمالة الناس إليها .
أنواع التيسير الفقهي
إن أهمية التيسير في الشريعة الإسلامية لا تجعل الباب مفتوحا لكل ناعق , ولا يعني ذالك خلو الشرع من قواعد تضبطه وتحدد معالمه , فليس كل ما يراه المكلف يسرا فهو يسر فعلا فقد يكون انحلالا وتساهلا في أحكام الشريعة .
فالتيسير الفقهي يحتاج لعلم مؤصل يعصم صاحبه من الزلل , ودين قوي يمنع صاحبه من الإفتاء بما يرضي الناس دون نظر لدلة الشرع وقواعده , فتحت باب المصلحة والضرورة ميع البعض الدين وتجرأ على أحكام الشرع .
التيسير المنضبط .
هذا النوع من التيسير يتجه فيه الفقهيه إلى الأدلة لاسنباط الحكم منها معتمدا على القواعد والأصول الشرعية , ثم يحاول تنزيلها عىل الوقائع فإن كان في التنزيل حرج وعنت إلتمس مخرجا لا يقدح في مقاصد الشريعة , فهذا النوع من التيسير تيسير محمود يسمى بالمخارج الفقهية .
من الضروري جدا تحرير ضوابط التيسير , كي لا يصبح ذريعة لتغيير أحكام الشرع والإنسلاخ منها , وأهم هذه الضوابط في التيسير هي :
- مراعاة منطقة العفو التي سكت عنها الشرع , ومنطقة العفو هي مرتبة بين الحلال والحرام , وقد تضيق هذه الدائرة بأحد المسالك الثلاثة , الأخذ بالآحاديث الضعيفة كاستدلال الحنفية بحديث التوضأ من الدم السائل وهو ضعيف , والمسلك الثاني إستعمال الآراء المذمومة , والمسلك الثالث إعمال الدليل في غير محله كالإستدلال بحديث النهي عن سفر المرأة مسافة ثلاثة أيام أنها مسافة القصر .
- التضييق من دائرة التحريم والإيجاب فالأصل في الأشياء الإباحة فوالجب التثبت من تحريم شيئ أو إيجابه .
- التوسط وعدم المبالغة في إعمال أصل الإحتياط
- تجنب البدع ومحاربتها فكثيرا ما جلبت المشقة على أهلها .
- الأخذ بأقل ما قيل عند الترجيح بين الأدلة المتعارضة فهو مسلك من مسالك الترجيح .
- التمييز بين المقاصد والوسائل . فالقاعدة أنه يغتفر في الوسائل ما لا يغتفر في المقاصد . وقد انبت على هذه القاعدة قاعدة أخرى وهي مراعاة المقاصد مقدمة على مراعاة الوسائل .
- التمييز بين الوسائل والبدع . فما يستحدث اليوم في ميدان التنظيم الإداري والسياسي والإقتصادي هو من قبيل الوسائل لا البدع المستحدثة .
- التمييز بين الحيل والمخارج الفقهية
- مرعاة المقاصد الشرعية والموازنة بين اللفظ والمعنى .
فهذه هي أهم ضوابط التيسير الفقهي .
التيسير المذموم وأهم مسالكه
لقد جعل البعض التيسير مطية للتلاعب بأحكام الدين , يدعون بذالك أنه يقدمون حلولا لأزمة الفكر في العالم الإسلامي , وقد يكون القصد منه أحيانا أخرى التنصل من أحكام الشرع .
إن التيسير لا بد أن يكون في إطار النصوص , فهي تحمل في طياتها روح الشريعة ومقصدها من رفع الحرج , ثم إن للتعامل مع هذه النصوص ضوابط ذكرنا بعضها , وقد أدى الإنسلاخ من هذه الضوابط أو بعضها أو تطبيقها تطبيقا خاطئا لظهور نماذج من التحريفات , وهؤلاء في الجملة تجمعهم أصول ومسالك اتخذوها في هذا النوع من التيسير المذموم أهما :
- تقديم المصلحة على النص : المعروف لدى العلماء أن المصلحة تكون ملغاة بمخالفتها النصوص , وهؤلاء عكسوا فيأخرون النصوص أو يأولونها بدعوى مخالفته النص , فتجد البعض منهم يبيح الربا المحرم بنصوص القرىن والسنة القطعية , بدعوى مصلحة الأفراد والدول .
- الأخذ بالعرف في مقابلة النص : فالمتفق عليه أن العرف لا يعتد به إن خالف نصا , وهؤلاء عكسوا فربما تركو النص رعاية للعرف .
- التوسع في الأخذ بفقه الضرورات دون التقيد بالقيود التي تحدث عنها العلماء .
- تتبع الرخص والمقصود بالرخص هنا , اختلاف العلماء بحيث يختار الأيسر والأخف منها دون مراعاة لأدلة الشرع في المسألة .
- الإحتجاج بالخلاف على جواز الفعل فاختلاف العلماء ليس مسوغا لاختيار أحد الأقوال منها دون ضابط . ولربما تجد البعض منهم يستدل بقواعد قد وضعت في الخلاف , كقاعدة لا إنكار في مسائل الخلاف , والحقيقة أن الخلاف الذي لا إنكار فيه هو الخلاف المعتبر الذي تقاربت فيه الأدلة , أما الخلاف الضعيف والشاذ فلا عبرة به .
- الإفراط المقاصدي : الفقه المقاصدي السليم هو الفقه الذي يوازن بين حرفية النص , وبين معانيه والعلل المستنبطة منه , فهو ليس حرفية جامدة وليس تأويلا منفلتا بلا ضوابط , وبعض المعاصرين قد اتخذوا من مقاصد الشريعة ذريعة لتحريف الأحكام وتغييرها .
آثار المبالغة في التيسير الفقهي
إن لهذه المسالك الفاسدة وهذا التيسير المذموم آثارا سيئة نجملها فيما يلي :
- التهوين من جزئيات الشريعة بدعوى الحفاظ والإهتمام أكثر بالكليات .
- التقليل من أهمية الفروع الفقهية بحجة أنها مشغلة عن قضايا الأمة المصيرية , وهذه الطريقة في الإهتما بالكليات والأصول وإهمال الجزئيات تعود عليهما معا بالنقض والنقض , فالجزئيات والفرواع هي صون لكلياتها وأصولها
- الإخلال بمقاصد الشريعة , فقد يظن الظان أن محاولة التخفيف غير المنضبط هو رعاية لمقصد الشرع في التيسير , وهو في الحقيقة ليس كذالك بل مخالفة لمقصد الشرع , فالتيسير المبالغ فيها يجعل صاحبه معرضا للوقوع في الحرام مرتكبا لها , فإن لمحارم الله حمى ومن واقع الشبهات وقع في الحمى والمحارم ,
مراجع المقال :
- التيسير الفقهي مشروعيته وضوابطه وعوائده الدكتور قطب الريسوني
- التيسير الفقهي ضوابط ومحاذير عبد الله بن محمد آل خنين
- المبالغة في التيسير الفقهي خالد بن عبد الله المزيني .