بين سلفية ابن باديس والسلفية المدخلية
الشيخ عبد الحميد بن باديس رئيس جمعية العلماء المسلمين , ورائد من رواد الحركة الإصلاحية في الجزائر , يحتدم الجدل من حين لآخر حول آراء الشيخ وأفكاره ومدى قربها أو بعدها من المنهج السلفي المدخلي . فالمتأمل في المدراس السلفية يجد أن المدخلية أو السلفية العلمية وحدها هي التي تحاول بشتى الطرق أن تنسب منهجه إلى منهجها لذا فهي التي سنخصها بالكلام .
ظهر إستعمال مصطلح السلفية خلال القرن التاسع عشر بين رموز الحركة الإصلاحية التي قادها جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده ومحمد رشيدا رضا , على تفاوت في سلفية هؤلاء , ثم أصبح هذا المصطلح يطلق بصفة خاصة على جماعات معينة .
وتعني السلفية في صورتها البسيطة الإستمساك بهدي القرون الأولى من سلف هذه الأمة في فهم هذا الدين , وكلامنا في هذه المقال سيكون عن قضايا دينية يعتبرها المداخلة معيارا للحكم على الشخص أنه مخالف للسلفية , وأن منهج من المناهج الضالة المبتدعة , وسوف نرى موقف الشيخ ابن باديس من هذه القضايا .
أولا يتفق الشيخ ابن باديس والمداخلة أن منبع الدين هو القرآن والسنة وفق هدي سلف الأمة , وهذا شيئ لا ينبغي أن يخالف فيه أحد بل كل يدعيه , والمتأمل في كتاب العقائد للشيخ ابن باديس يجد أن الشيخ يقر عقيدة الإثبات النافية للتأويل أو التفويض الأشعريين ففي أصول الإعتقاد فالشيخ موافق للسلفية .
وفي المقابل فإن الشيخ يخالف السلفية المدخلية في جملة من الأشياء التي يعد السلفية قائلها في أقل أحواله مبتدعا نذكر منها :
1 . إجازته دعاء الله بالتوسل بذات النبي صلى الله عليه وسلم , وصورته أن يقول العبد الله إني أسألك بنبيك مثلا , فالدعاء موجه لله عز وجل ولكن توسل العبد لله بنبيه صلى الله عليه وسلم , وهذه الصورة مختلف في مشروعيتها عند العلماء .
فالسلفية المدخلية لا ترى في هذا سعة ولا مجالا للخلاف فيه , فهو محرم قطعا وقد يضلل من قال بالجواز , أما الشيخ ابن باديس فهو يرى جواز ذالك , ففهو يحكي عن سؤال وجهه إليه أحد شيوخ الزوايا عن قول القائل اللهم إني أتوسل إليك بفلان , قال الشيخ ابن باديس (( فأجبنا جواز ذلك في حق النبي - صلى الله عليه وآله وسلم- لحديث الأعمى وأما غيره فلا نقيسه عليه )) .
2 . الإحتفال بالمولد النبوي فالسلفية المعاصرة تمنع كل أشكاله وكل ألوانه , وتعتبر فعله سببا كافيا للقدح في صاحبه ووصفة بالإبتداع في الدين .
بينما الشيخ ابن باديس وجمعية العلماء دأبت على إحياء هذه الذكرى بطريقتها الخاصة , فطالما ذكر الشيخ في جرائد الجمعية بعضا من صور هذا الإحتفال التي تقوم به , يقول عن المولد (( أقطار المعمورة كلّهم تخفق أفئدتهم فرحا وسرورا وتخضع أرواحهم إجلالا وتعظيما لمولد سيّد العالمين )) ويوضح الشيخ الإبراهيمي طريقة الجمعية في الإحتفال فيقول (( فنجلي فيه السيرة النبوية ، والأخلاق المحمدية ، ونكشف عما فيها من السر ... )) .
3 . الموقف من الطوائف الأخرى كالإباضية والطرقية , فالسلفية المدخلية موقفها منهم موقفا شديدا , لا يتسم بالليونة بل هي تدعوا أصحابها لهجر هؤلاء وأحيانا الإمتناع حتى عن إلقاء السلام عليهم , ولا يصفونهم بالإخوة في الدين أبدا .
بينما الشيخ ابن باديس على العكس من ذالك فقد كان لينا مع مخالفيه , فها هو مثلا يصف الإباضية بأنهم إخوانه , وهم طائفة من الخوارج فيقول (( واحتفل بنا في مستغانم جماعة إخواننا الإباضية ولقينا منهم من الإكرام مثل ما كنا نلقاه دائماً منهم في رحلتنا )) .
ولما حدث نزاع بين الاباضية والمالكية داعهم الى أخوة الدين فقال (( فأجبتهم بأننا دعاة إصلاح واتحاد بين المسلمين على اختلاف مذاهبهم )) .
ولعلى الشيئ الذي يجهله الكثير أن مجلس إدارة الجمعية كان مكونا من طوائف عدة بما في ذالك الطرقية الإباضية , يقول الشيخ (( لقد جاء مجلس الإدارة مؤلفا من جميع عناصر الأمة الجزائرية ممثلا لها خير تمثيل ففيه من العلماء المنتمين للزوايا كالمهاجي ... وفيه من علماء القبائل الفضيل وفيه من علماء الإباضية أبو اليقظان، أفبعد هذا يقول قائل يلتزم الصدق: أن الجمعية إنما تمثل طائفة.)) .
4 . التعاون في المتفق عليه مع الطوائف الأخرى , وهذا المبدأ تنكره السلفية المعاصرة إنكارا شديدا , وترى أن الموقف من الطوائف الأخرى هو الهجر والقسوة .
أما ابن باديس فيقول واصفا إحدى زياراته إلى زاوية من زوايا الصوفية , وكان قد ألقى كلمته بعد العشاء يدعوا فيها للتعاون والإجتماع فقال (( وأن لا نجعل القليل مما نختلف فيه سبباً في قطع الكثير مما نتفق عليه، وأن الإختلاف بين العقلاء لا بد أن يكون ولكن الضار والممنوع المنع البات هو أن يؤدينا ذلك الاختلاف إلى الافتراق )) .
وله قول واضح في أحد مقالاته يتضح به موقفه من التعاون مع الطرق الصوفية (( فكل طرقي مستقل في نفسه عن التسخير فنحن نمد يدنا له للعمل في الصالح العام ... وكل طرقي- أو غير طرقي- يكون أذنا سماعة، وآلة مسخرة فلا هوادة بيننا وبينه حتى يتوب إلى الله )) .
5 . العمل تحت تنظيم جمعوي : وهذا الأمر يعتبر من المحرمات القطيعة عند السلفية المعاصرة , بل تعتبره ضلال وتقليد غربي , فالجمعيات عندهم بمختلف أشكالها محرمة , ولذا فإنك لا تجد للسلفية جمعية تنشط باسمها بينما ابن باديس أسس جمعية العلماء .
6 . الموقف من الأحزاب والمشاركة في السياسة : يحرم السلفية المعاصرة العمل السياسي تحريما شديدا ويعدون ذالك من البدع المنكرة , وفي بعض الأحيان يحاولون إيهام الغير أن الشيخ ابن باديس يحرمه مثلهم بكلام موهم غير صريح .
بينما الواقع يشهد أنه ليس للجمعية ولا لابن باديس أي كلام صريح في تحريم العمل السياسي , بل قد شارك في أعمال سياسية والتقى رؤساء الاحزاب كما فعل في المؤتمر الإسلامي سنة 1936 م , وقد دعى في اجتماع المؤتمر إلى مساواة الجزائريين بالفرنسيين في حقهم في المشاركة النيابية ودعى أيضا إلى المساواة في الحق في المشاركات الإنتخابية .
7 . الموقف من الإنتخابات : من المحرمات اليقينية عند السلفية المعاصرة الانتخابات , ويعتبرون هذا من البدع المنكرة بينما لم يحرم الشيخ ابن باديس ذالك , بل طالب فرنسا كما مر أن يكون من حق كل الجزائريين الانتخاب بل كانت الاننتخابات في الجمعية من الوسائل المعتمدة داخلها في إختيار الأعضاء .
8 . الموقف من الإضراب والتظاهرات : تحرم السلفية المعاصرة كل أشكال الإضراب وتعتبره تقليدا كفريا وبدعة غربية , بينما نجد الشيخ ابن باديس يؤيد إضراب الطلبة التونسيين ومظاهراتهم فيقول ((هاجت تونس وحق لها أن تهيج، وأضرب طلبة الجامع الأعظم وحق لهم أن يضربوا، وتظاهروا في الطرق العامة ، وكان حقا عليهم أن يتظاهروا ))
هذا بعض ما تيسر جمعه من مواقف وأفكرا خالف فيها ابن باديس السلفية المعاصرة , ولو تأمل المرء أكثر في كتاب آثار الشيخ عبد الحميد ابن باديس لوجد أفكار كثيرة بخالف فيها ابن باديس الفكر السلفي المدخلي , كموقفه من بعض القضايا السياسية كاختيار الحاكم وغيرها .