خطبة بعنوان فرعون فساده صفاته النفسية والخلقية في القرآن الكريم
لا يمكن معرفة شيئ عن هذه الفترة المبهمة التي تغيرت فيها الظروف , وأدت لتغير نظرة المصريين إلى بني إسرائيل واضطهادهم , فما يمكنهم القول أن فترة التعايش والأمان بين بني إسرائيل والمصريين إنتهت , وتحول التعايش إلى اضطهاد وتعذيب وبلاء , ولكن الشيئ الذي يلفت النظر في الآيات القرآنية أن لقب الحكام قد تغير , فحاكم مصر زمن سيدنا يوسف عليه السلام كان يسمى ملكا , ثم تحول لقب الحاكم بعدها إلى فرعون , والشيئ المحتمل الذي ذكره المؤرخون أن الحكم زمن سيدنا يوسف كان للعرب الذين احتلوا مصر , ثم قام المصريون بثورة طردوا فيها هؤلاء المحتلين وأعادوا الحكم للفراعنة , ولعلى ما يؤيد هذا أن كلمة الملك كلمة عربية خالصة , أما كلمة فرعون فهي أعجمية ويبقى هذا الرأي محتملا لا يمكن الجزم به .
الفرعونية مرض نفسي يصيب القادة
الفرعونية عقدة تصيب بعضا من الناس فتجعلهم مستكبرين منغمسين في الفساد والإفساد , ومن تعاطى هذه الأفاعيل يقال فيه تفرعن أي اتصف بتلك الصفات الفرعونية , وهي أكثر ما تصيب القادة والحكام فتجعلهم أكثر الناس فسادا وظلما , فهؤلاء بدلا من أن يعتبروا أنفسهم خدما لشعوبهم وأن حكمهم لهؤلاء الشعوب فرصة لخدمتهم وتقديم الخير لهم , راحوا يحتقرون شعوبهم ويذلونهم ثم ينسون أنهم بشر مثلهم فيتعاملون معهم بمنتهى الإزدراء والإحتقار .
وقد أخبر القرآن أن من كان حكمه متصفا بهذه الصفة فإن مصيره الزوال , قال تعالى (( وَفِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتَادِ (10) الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلَادِ (11) فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَادَ (12) فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ (13) إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ )) .
مظاهر فساد حكم فرعون
لقد ذكر القرآن الكريم أهم وأخطر مظاهر الحكم الفرعوني والذي هو صورة متجددة في كل زمان وفي كل مكان , كما ذكر القرآن الكريم بعضا من نماذج الإضطهاد والتعذيب لبني إسرائيل .
المظهر الأول العلو والتكبر والتجبر : العلو والتكبر والتجبر مرض فرعوني بامتياز , علو فرعون في الأرض هو عرض من أعراض الإصابة بهذا المرض , فلما رأى الرجل نفسه حاكما نسي أنه بشر ضعيف عاجز , كما أنه نسي أن الله ابتلاه بالملك ليخدم قومه ويسعدهم , إنه لا يمكن أن يكون الحكم راشدا أبدا مع الطغيان والقهر , ولا يمكن أبدا أن يكون الحاكم صالحا مصلحا مع العلو والتجبر , إن العلو واحتقار الشعوب والنظرة إليهم بازدراء هو أساس الفساد وإفساد الرعية , قال تعالى متحدثا عن هذا المرض الفرعوني (( إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ )) , وقاد قال فيه أيضا (( وَلَقَدْ نَجَّيْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنَ الْعَذَابِ الْمُهِينِ مِنْ فِرْعَوْنَ إِنَّهُ كَانَ عَالِيًا مِنَ الْمُسْرِفِينَ )) , وقال أيضا (( وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعَالٍ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الْمُسْرِفِينَ )) .
وقد كان من أهم أسباب تكريس الظلم والتجبر هم الجنود والأعوان , فهم أدوات الظلم والبطش وبسط النفوذ , ولا يمكن للحاكم أن يستبد ويظلم إلا بمعونة من الجنود والأعوان الذين يطيعونه وينفذون أوامره , وسرعان ما ينتقل هذا المرض النفسي إليهم , فهم أوتاد للنظام المتسلط قال تعالى (( وَفِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتَادِ )) أي ذي الجنود والعساكر والجموع الكثيرة الذي تشد ملكه قاله ابن عباس , وقال أيضا (( وَاسْتَكْبَرَ هُوَ وَجُنُودُهُ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ )) فتجد هؤلاء الأتباع متجبرين متكبرين قد علموا أن حاكمهم يحميهم ولا يعاقبهم , وبذالك يعم الطغيان والظلم أغلب طبقات الشعب , فالظلم لم يتسلط على المحكومين من الحاكم فحسب بل تعدى ليتسلط عليهم من الجنود والأعوان أيضا, ولذا جمعهم الله بوصف الخطيئة جميعا فقال (( إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا كَانُوا خَاطِئِينَ )) .
المظهر الثاني (( وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا )) : وهذا المظهر هو نتيجة للعلو والتكبر والتجبر , فقد قسم فرعون أهل مصر إلى جماعات وأحزاب متصارعة , كما أنه كرس هذا الإنقسام وحرص على تقسيمهم , فمنهم الموالي والمؤيد مقرب عنده , ومنهم المعارض المخالف الذي أقصاه واحتقره , ومنهم المعادون وهؤلاء عذبهم واضطهدهم كحال بني إسرائيل , إن الأصل في الحاكم أن يجمع شمل شعبه لا أن يفرقهم جماعات وأحزاب .
المظهر الثالث (( يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ )) : وهي نتيجة حتمية للتقسيم والتفريق بين أبناء الشعب والوطن الواحد ان تكون طائفة مستضعفة مظلومة مهضومة الحقوق , فهو قد قرب الموالين وأبناء جلدته واهان المعارضين واحتقرهم .
المظهر الرابع (( يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ)) : وهذه نقطة تالية ناتجة عما سبق فالظلم والإحتقار والعلو وتقسيم المجتمع واستضعاف طائفة منه واحتقارها وازدرائها يجعل دمها رخيسا مستباحا , ففرعون كان يقتل الذكور من بني إسرائيل أما النساء اللواتي لا يشكلن خطرا عليه فيبقيهم أحياء يعشن حياة الذل والهوان . لامعيل لهن ولا ناصر لهن من الرجال .
المظهر الخامس (( إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ )) : هذه نتيجة حتمية لمن كان هذا هو حكمه , فالحاكم إذا اتصف بالجبروت وقهر فئات من الشعب وإذلالهم , فلا شك أن حكمه سيكون فاسدا , فهذه مظاهر كل حكم ظالم متفرعن مستبد , قهر وتفريق ين أبناء الشعب وإفساد في الأرض كي يستمر حكمه كما يعتقد .
وقد ذكر القرآن مظاهر فساد أخرى كرسها الحكم الفرعوني , فقد كان قوم فرعون فاسقين قال تعالى (( اسْلُكْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَنَاحَكَ مِنَ الرَّهْبِ فَذَانِكَ بُرْهَانَانِ مِنْ رَبِّكَ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ )) , كما انهم كانوا قوما ظالمين قال تعالى (( وَإِذْ نَادَى رَبُّكَ مُوسَى أَنِ ائْتِ الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (10) قَوْمَ فِرْعَوْنَ أَلَا يَتَّقُونَ ))