حديث إذا ولغ الكلب في إناء أحدكم دراسة أصولية وفقهية وبيان مذهب المالكية
أصل هذا الموضوع هو تفريغ لدرس الشيخ مولود السرير على شرح مختصر خليل , وعنوان درسه (( إجراء المنهج الأصولي والنظر الفقهي على حديث ولوغ الكلب , طبعا لن نلتزم عباراته الحرفية بل سنلخص محتوى درسه , مع بعض من الإضافات من المصار الفقهية والأصولية الأخرى إثراء للموضوع .
لما بلغ الشيخ مولود السريري في شرح قول المصنف (( وَنُدِبَ غَسْلُ إنَاءِ مَاءٍ وَيُرَاقُ , لَا طَعَامٍ , وَلَا حَوْضٍ تَعَبُّدًا سَبْعًا بِوُلُوغِ كَلْبٍ مُطْلَقًا , لَا غَيْرِهِ عِنْدَ قَصْدِ الِاسْتِعْمَالِ بِلَا نِيَّةٍ وَلَا تَتْرِيبٍ وَلَا يَتَعَدَّدُ بِوُلُوغِ كَلْبٍ أَوْ كِلَابٍ )) من مختصر خليل , أراد أن يبين للطلبة مأخذ المالكية وأدلتهم في هذه الأحكام مع بيان النظرة الأصولية والفقهية لهذا الحديث , والتنبيه لنظرة غيرهم من المذاهب .
ولما كان العمدة في هذه الأحكام هي آحاديث الولوغ فقد قام الشيخ مولود السرير بتطبيق القواعد على حديث من تلك الآحاديث , والتي وردت بألفاظ مختلفة , وغرضه من ذالك تدريب الطلبة على التأصيل والتطبيق .
ألفاظ حديث إذا ولغ الكلب في إناء
ليست غايتنا من جمع ألفاظ الحديث هنا هي استقصاؤها جميعا وتخريجها , بل ذكر ما هو مشهور في كتب آحاديث الأحكام , وقد اعتمدنا على كتاب منتقى الأخبار لذكر بعض من ألفاظ الحديث .
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: « إذَا وَلَغَ الْكَلْبُ فِي إنَاءِ أَحَدِكُمْ فَلْيُرِقْهُ ثُمَّ لْيَغْسِلْهُ سَبْعَ مَرَّاتٍ » . رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَالنَّسَائِيُّ .
عنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ : « إذَا شَرِبَ الْكَلْبُ فِي إنَاءِ أَحَدِكُمْ فَلْيَغْسِلْهُ سَبْعًا » . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ ، وَلِأَحْمَدَ وَمُسْلِمٍ : « طُهُورُ إنَاءِ أَحَدِكُمْ إذَا وَلَغَ فِيهِ الْكَلْبُ أَنْ يَغْسِلَهُ سَبْعَ مَرَّاتٍ أُولَاهُنَّ بِالتُّرَابِ » .
عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُغَفَّلٍ قَالَ : « أَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِقَتْلِ الْكِلَابِ ثُمَّ قَالَ : مَا بَالُهُمْ وَبَالُ الْكِلَابِ ثُمَّ رَخَّصَ فِي كَلْبِ الصَّيْدِ وَكَلْبِ الْغَنَمِ وَقَالَ : إذَا وَلَغَ الْكَلْبُ فِي الْإِنَاءِ فَاغْسِلُوهُ سَبْعَ مَرَّاتٍ وَعَفِّرُوهُ الثَّامِنَةَ بِالتُّرَابِ » . رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ إلَّا التِّرْمِذِيَّ وَالْبُخَارِيَّ .
النظرة الأصولية لحديث إذا ولغ الكلب في إناء أحدكم
لفظ الحديث الذي اعتمد عليه الشيخ مولود السريري في الشرح وتطبيق القواعد كان على النحو التالي :
(( إذَا وَلَغَ الْكَلْبُ فِي إنَاءِ أَحَدِكُمْ فلْيَغْسِلْهُ سَبْعَا ))
ينبغي أن يعلم طالب العلم أن لكل لفظة من ألفاظ النصوص أصل يبدأ منه النظر وعليه المعتمد , فلا بد لهذا الأصل أن يستحضر ليتخذ العمدة في بناء الحكم , فإذا أراد مريد أن ينتقل لما سواه فيلزمه الدليل الناقل لهذا الأصل , وهذا الدليل ينبغي أن يكون دليلا شرعيا .
فكلمة (( إذا )) تقررت فيها جملة من الآراء وهي هنا أصوليا شرطية وظرفية , والدليل على كونها شرطية ظرفية الفاء في قوله (( فليغسله )) الذي هو جواب الشرط , فالقرنة هنا التي جعلتنا نقول أن (( إذا )) شرطية ظرفية قرينة لفظية , فإذا في بعض المواطن قد تختل فيها الشرطية كقوله تعالى (( والليل إذا يسري )) .
فأصل كلمة (( إذا )) هنا شرطية ظرفية , فمن أراد أن يخرج عن هذا الأصل هنا لزمه الدليل والحجة , فإذا خرج عن الأصل هنا لغيره من المعاني سمَّيْنَا عمله هنا تأويلا , والمؤول يلزمه الدليل الكاف للنقل عن الأصل لغيره , أما صاحب الأصل فلا يطلب منه إلا أن يقرر أن هذا هو الأصل .
ومن وراء هذا الرأي أن إذا هنا شرطية ظرفية عمل أصولي , فقد حدث نقاش وبحث ونظر ومراجعة للأدلة من أجل الوصول لهذا الرأي , ومبنى هذا الرأي على القراءة اللغوية لهذه اللفظة وهو عمل الأصولي , فقراءته هنا قراءة لغوية والأصل في ذالك قوله تعالى (( إنا أنزلناه قرآنا عربيا )) , وقوله (( بلسان عربي مبين )) وقوله (( حكما عربي )) فقُرِّرَت هذه الأشياء لغويا .
وقراءة الأصولية للأفاظ تكون تجريدية , ومعنى تجريدية أي بعيدة عن كون هذه اللفظة في هذا النص وحيا , وأيضا مجردة من السياق الوارد فيه هذه اللفظة , ومجردة أيضا عن قصد المتكلم في هذا النص الخاص . فالقراءة الأصولية تكون من حيث وضع اللفظ اللغوي قبل أن يستعمله المستعمل , فالقراءة هنا تجريدية تكون بعيدة عن اللفظ وهو في الحديث , فإذا قرئ اللفظ في الحديث فقد انتقلنا إلى القراءة الفقهية .
قوله (( ولغ )) ترد عليه أمور ثلاثة , فهل هو لفظ لغوي أم شرعي أم عرفي , فالقراءة الأصولية لهذا اللفظ تكون تجريدية أي بعيدا عن الحديث , فقراءته تكون لغوية والنقل إلى غيرها خلاف الأصل , فمبحث الأصولي لغوي فهو يقرؤه لغويا تجريديا , فهم يبدؤون بالتجريد أي بحسب الوضع اللغوي لأنه هو الأصل , فالسؤال لأي شيئ وضع الولوغ في اللغة , فهو قد وضع لإدخال هذا الكلب لسانه في الماء مع الخضخضة , فهم يقررونه هنا ويتركونها وهو الأصل .
فمبحث الأصولي هنا أن كل لفظة لها أصل يجب الأخذ به وعدم تركه حتى يرد الدليل الناقل عنه , فالألف واللام في قوله ( الكلب )) في أصل , والأصل فيه هو العهد على القول الراجح , فقبل الوصول لهذه النتيجة قد نوقشت هذه المسألة أخذا وردا بين الأصوليين , فعلى طالب العلم الإطلاع على هذه المناقشة كي تتكون عنده الملكة والصناعة الفقهية , وكي يتكون لديه العقل الأصولي , فكان الأصل أن نعود لما كُتب في كتب الأصول في (( باب المفرد المعرف ب ( ال ) )) ونناقش المسألة حتى نصل إلى الراجح .
قوله (( في )) للظرفية , لكن المشكلة هنا هي تعدد معاني الحروف ( الإشتراك في الحروف )) , فعندما تريد تقرير الحكم الأصلي لحرف من الحروف تجد الدلة متعارضة , حينها إما ان تقول أن أحد هذه المعاني حقيقة والأخرى مجاز حينها لا بد من دليل , وإما أن تقول أن اللفظ مشترك فيكون مجملا , والمشكلة انك تريد أن تحدد معنى للفظ .
كتب اللغة لن تفيدك في هذه المسألة , بل حتى الكتب اللغوية التي تحدثت عن الحروف لن تحسم لك المسألة , فهم يقولون الحرف معناه هنا كذا وقد يرد , ولكن المشكلة وروده في غيره من المعاني هل هو حقيقة أم مجازا , ففي هنا ظرفية ولكن ترجحت ظنا لا قطعا .
كلمة (( الإناء )) لفظة تبدل معناها بمرور الزمان , ومثل هذا اللفظ فيه حقيقة , فالإناء الآن يسمى به الكثير من الأشياء , والإناء الذي قُصد في هذا الحديث هو الإناء العرفي لا اللغوي , فيحمل الإناء على ما يسمى إناء في الزمن النبوي , وللفقهاء كلام آخر , فنحن هنا نقرر النظرة الأصولية .
قوله (( أحدكم )) هل له مفهوم أم لا , فهل هذا اللفظ خاص بالصحابة أم يشملهم وغيرهم , فالصحابة هم المخاطبون هنا , فقوله (( أحدكم )) ظاهره الإختصاص , وهذا هو الأصل في الوصف المخصوص , فقولنا (( أنت )) خاص بالمخاطب وبالتالي (( أحدكم )) خاص بالمخاطب .
قوله (( فليغسله )) هذا أمر وفيه مباحث أصولية كثيرة , وترد صيغة الأمر لمعان عديدة والأصوليون مختلفون غختلافا كثيرا حولها , وسنقتصر هنا على المحتمل فقط لهذه اللفظة أصوليا وهي الوجوب والندب والإباحة .
فمن قال الأصل في الأمر الندب كان القول بالوجوب عنده تأويلا , وهكذا من قال بالوجوب كان القول عنده بالندب تأويله , ومثلهما في الإباحة , وعليه فيطالب المؤول بدليل تأويله .
وفي قوله (( فليغسله )) بحث وهو التكرار , فدراسة اللفظة تعتمد على التجريد دون مراعاة للسياق , أما مراعاة السياق وموقع الكلمة في النص فهي قراءة فقهية وليست أصولية , فالقراءة الأصولية تقرأ لفظ (( إغسل )) وحده , فإذا أردنا دراسة كلمة (( إذا )) دراسة وضعية أصولية , فهي ليست للتكرار فهي ليست للعموم ليست كألفاظ كلما وحيثما بخلاف إذا فحتى ولو قلت إذا ما فهي لا تدل على العموم .
فالمسلك الأول أننا لم نجد موجبا للتكرار فهو لم يوجد في الأمر ولم يوجد في إذا , فالشرط لا يفيد التكرار فلو قلت (( إن دخل زيد الدار فسيدخل عمرا )) فهذا لا يدل على التكرار , فالأصوليون قد اتخذوا هذه الطريقة في اختبار مضامين الكلام وهي التجريب في الخبريات , والطريقة الأخرى طريقة الشاهد - الإنسان - , فلو قال السيد لعبده (( إذا دخلت السوق فاشتري لحما )) فهذا لا يفيد التكرار , وبالتالي فالشرط لا يفيد التكرار .
فالدراسة هنا دراسة لظواهر الألفاظ المجردة عن الشريعة , فهنا لا نعتبر في هذه المرحلة القرينة ولا السياق , فالدراسة هنا دراسة دلالية ( هذه المجردة ) , ويدرس أيضا دراسة إستدلالية فقهية .
قوله (( سبعا )) وهو عدد والخلاف قد وقع فيه هل له مفهوم أم لا , والراجح أنه ليس له مفهوم .
النظرة الفقهية لحديث إذا ولغ الكلب في إناء احدكم
كلمة (( ولغ )) تقرأ قراءتين فقهيتين لغوية ومعنوية , فالنظرة هنا لغوية ونظرة معنوية , والأصل عند الفقهاء جميعا هي القراءة المعنوية إلا الظاهرية , والقراءة المعنوي تكون بأن نبحث عما تضمنه الولوغ وهو التنجيس , فالنظر هنا ليس للفظ بل لمضمونه , فالولوغ يحتوي على وصف يعتبر علة الحكم وهو التنجيس وهذه قراءة الشافعية , أما المالكية فقرؤوا اللفظة قراءة لغوية .
فأصبح النص عند الشافعية (( إذا نجَّس الكلب )) ولذالك قالوا يُلحق به البول أو أي نجاسة من الكلب , فإن الإناء يغسل سبعا , فإنه لو لم يكن للولوغ خصوصية فيه وعُلِّق الحكم على مجرد الولوغ لدخل ولوغ الإنسان في الحكم , وأما كلمة الكلب حينها فلا تؤثر لأن هذا لقبا واللقب ليس له مفهوم , فالتعليق على الولوغ يجعل لا فرق بين الكلب والإنسان حينها , فلا بد من وجود شيئا ما في الولوغ , ففي اللفظ مناط الحكم قد يعمم وقد يخصص الحكم .
فالفقيه لا ينظر إلى اللفظ بل ينظر لمعنى اللفظ , فالأصل عند الفقهاء هي القراءة المعنوية , فإذا جاء النص ان الصبي يحجر عليه , فالفقهاء ينظرون للمعنى الموجود في الصبي وهو العجز عن دفع الضرر وجلب المصلحة لنفسه , فهذه الخصوصية هي الموجودة في الصبي دون البالغ , فأدخلوا بذالك المجنون والسفيه فأصبحت القضية عندهم يحجر على العاجز عن دفع الضرر وجلب المصلحة لنفسه .
أما المالكية فقرؤوا اللفظة لغويا , فعلقوا الحكم على مجرد الولوغ فجمدوا اللفظة , والسبب الذي جعل المالكية يقرؤون هذه اللفظة قراءة لفظية أصولهم , فالأصل عندهم أن الحياة علة الطهارة , فلا يمكن عندهم القراءة المعنوية هنا وربط الأحكام بالنجاسة هنا .
قوله (( الكلب )) المالكية قرؤوه قراءة لفظية أيضا لما مر أن الحياة علة الطهارة , أما الشافعية فقرؤوه قراءة معنوية وأصبح الحديث عندهم (( إذا نجس المتنجس نجاسة معنوية الإناء ... )) فأدخلوا الخنزير , وقد اعترض ابن حزم هنا عليهم باعتراض قويا , فقال الخنزير بعيد عن الكلب والأولى إلحاق السبعيات به فهي أقرب إليه .
قوله (( إناء )) قرأه المالكية قراءة لغوية فقصروه على الإناء والإسم لا مفهوم له , وأما غيرهم فقرؤوه قراءة معنوية فعمموه على الإناء وغيره .
قوله (( أحدكم )) لم يضع له أحد مفهوما لأن الأصل في الأحكام العموم والإستغراق . فالأدلة كثيرة قد دلت أن الأحكام التي خوطب بها الصحابة قد خوطبت بها الأمة .
قوله (( فليغسله )) حمله الشافعية والحنابلة على الوجوب , وحمله المالكية على الندب مع أن الأصل عند المالكية أن الأمر للوجوب , وقد تركوا هذا الأصل فقالوا الأمر هنا للندب لأن القاعدة عندهم أن الأمر إذا كان لمصالح الناس كالنظافة والنقاء ومحاسن الأخلاق أو ما أشبه ذالك مما لم يكن تعبدا , فإنه لا يكون إلا مندوبا وكذالك النهي فهو لا يكون إلا مكروها , كقوله (( لا يتنفس أحدكم في الإناء )) , ودليلهم أن هذه المصلحة لا تستحق أن يربط بها الوجوب فمن أراد أن يسقط حقه فله ذالك , وهذا يليق به الندب فهذا تحليل فقهي , فهذه هي القرينة التي تخرج اللفظ عن ظاهره .
أحكام مختلفة في مسألة ولوغ الكلب في الإناء
مسألة 1 : بعض المذاهب جعلوا ((ولغ )) علة والمالكية جعلوه شرطا يفيد الفعل فقط .
مسألة 2 : لو ان كلبا شرب من الإناء عشرين شربة فإن الإناء يغسل سبع مرات فقط لأن الأمر لا يفيد التكرار , ولأن هذا الأمر تعبد عند المالكية وما كان تعبدا لا يكون معقول المعنى , وغير معقول المعنى يحصل فيه مقصود الشرع بتحصيل الفعل وإدخال الفعل للوجود مرة واحدة .
مسألة 3 : خص المالكية الإراقة والغسل بإناء الماء دون إناء الطعام لأن قراءتهم للحديث لفظية , وغيرهم وسعوا الحكم إلى إناء الطعام بجامع النجاسة بين الولوغ والأكل .
مسألة : أسقط المالكية التتريب لأن الحديث مضطرب .
إذا خرجنا من باب الدلالة إلى باب الإستدلال فكلمة (( فليغسله )) استنبط منه الشافعية أن موجب ذالك النجاسة , فالذي شرب منه الكلب نجس واعتمدوا على الإستدلال , فقالوا لو لم يكن هذا الذي تركه الكلب في الإناء نجاسة لما أمرنا الشرع بغسله , لأن الغسل في الشريعة لا يكون إلا لأمرين إما من حدث وإما من خبث , فهذا استدلال اعتمد على الإستقراء .
لكن قد جاء في الشريعة أمرا بالغسل ولم يوجد هناك لا نجاسة ولا حدث , فالذي يستيقظ من النوم أمره الشرع بغسل يديه وليس فيها حدث ولا خبث , فهذا غسل بلا حدث ولا خبث , فاستقراءهم غير صحيح فالشرع قد يأمر بغسل الشيئ دون ان يتعلق به خبث أو حدث .