الوقت الضروري والوقت الإختياري للصلاة ودليل التفريق ومن هم أهل الأعذار
أوقات الصلاة توقيفية جاء بها الشرع , وقد قسم العلماء استنادا للشرع أوقات الصلاة لقسمين إختيارية وضرورية , فما مستند العلماء في التقسيم , وما الفرق بين الوقت الإختياري والوقت الضروري , وما هي الأعذار المبيحة لتأخير الصلاة إلى وقتها الضروري .
دليل الفقهاء في تقسيم أوقات الصلاة إلى اختياري وضروري
تحديد أوقات الصلاة لا يكون إلا بتوقيف من الشرع , وقد جاء في التنزيل قوله تعالى (( إنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَّوْقُوتًا )) , قال الشيخ السعدي في تفسيره (( أي : مفروضا في وقته، فدل ذلك على فرضيتها، وأن لها وقتا لا تصح إلا به )) , وقد أخذ المسلمون أوقات الصلاة عن نبيهم صلى الله عليه وسلم , والأصل في تحديد أوقات صلاة حديث جبريل عليه السلام الذي سيأتي .
فالزمان جزء من العبادة ووقت الصلاة جزء منها , فكما أنه لا يمكن أن تزيد في هيئة الصلاة فإنه لا يمكن أن تغير زمانها , فتحديد زمان العبادة من خصائص الشارع , وعلى هذا فتقسيم الزمان في الصلاة إلى ضروري واختياري لا بد أن يكون له مأخذ في الشرع وإلا رفض .
الأصل في اللفظ إذا أطلق على ما يُتَعبَّد به أن يكون منقولا عن الشرع كالصلاة والزكاة والصوم , فهذه ألفاظ وضعها الشرع لعبادات مخصوصة , فلا يمكن أن تُسمي مسمى شرعيا إلا باسم جاء به الشرع , فالمفروض أن تكون لفظتي المختار والضروري قد جاء الشرع بهما .
لفظ المختار ولفظ الضروري لم يجئ في القرآن ولم يجئ في الحديث , ولكنه جاء من لفظ جعلته الشريعة مأخذا للأحكام , فالذي يظهر أن كلمة مختار مأخوذة من كلام جبريل , فهو مؤسس لهذين المصطلحين بقوله (( والوقت فيما بين هذين الوقتين )) , ففي قولها هذا تحديد لمحل الصلاة , ويستخرج منه بدلالة الإلتزام أن المكلف يتصف في هذا الوقت بالإختيار في إيقاع هذه العبادة , فيختار أي جزء من هذا الوقت فيؤدي فيه الصلاة فكان هذا الوقت وقت إختيار له , فتسمية الشارع قد تأخذ بالمطابقة كالصلاة وقد تأخذ بدلالة الإلتزام كما في هذه التسمية .
أما كلمة الضروري فهي أيضا مأخوذة من صفة المكلف , فالمكلف إذا كان مخيرا في هذا الظرف ما بين الوقتين أعني بداية الوقت الإختياري ونهايته , فإنه سيكون متصفا بالضرورة فيما بعد ذالك .
الوقت الإختياري والوقت الضروري للصلاة عند المالكية .
الأصل في تحديد أوقات الصلاة وتقسيمها هو حديث إمامة جبريل للنبي صلى الله عليه وسلم , قال العيني في عمدة القاري (( هَذَا الحَدِيث هُوَ الْعُمْدَة فِي هَذَا الْبَاب )) , وقد نقل الترمذي عن البخاري أن هذا الحديث هو أصح شيئ في مواقيت الصلاة , وقد اخرجه الترمذي وأبو داود والنسائي وغيرهما قال ابن عبد البر في التمهيد (( وَقد تكلم بعض النَّاس فِي حَدِيث ابْن عَبَّاس هَذَا بِكَلَام لَا وَجه لَهُ، وَرُوَاته كلهم مَشْهُورُونَ بِالْعلمِ )) .
عن ابْنُ عَبَّاسٍ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : (( أَمَّنِي جِبْرِيلُ عِنْدَ البَيْتِ مَرَّتَيْنِ ، فَصَلَّى الظُّهْرَ فِي الأُولَى مِنْهُمَا حِينَ كَانَ الفَيْءُ مِثْلَ الشِّرَاكِ، ثُمَّ صَلَّى العَصْرَ حِينَ كَانَ كُلُّ شَيْءٍ مِثْلَ ظِلِّهِ ، ثُمَّ صَلَّى المَغْرِبَ حِينَ وَجَبَتِ الشَّمْسُ وَأَفْطَرَ الصَّائِمُ ، ثُمَّ صَلَّى العِشَاءَ حِينَ غَابَ الشَّفَقُ ، ثُمَّ صَلَّى الفَجْرَ حِينَ بَرَقَ الفَجْرُ، وَحَرُمَ الطَّعَامُ عَلَى الصَّائِمِ، وَصَلَّى المَرَّةَ الثَّانِيَةَ الظُّهْرَ حِينَ كَانَ ظِلُّ كُلِّ شَيْءٍ مِثْلَهُ لِوَقْتِ العَصْرِ بِالأَمْسِ، ثُمَّ صَلَّى العَصْرَ حِينَ كَانَ ظِلُّ كُلِّ شَيْءٍ مِثْلَيْهِ ، ثُمَّ صَلَّى المَغْرِبَ لِوَقْتِهِ الأَوَّلِ ، ثُمَّ صَلَّى العِشَاءَ الآخِرَةَ حِينَ ذَهَبَ ثُلُثُ اللَّيْلِ، ثُمَّ صَلَّى الصُّبْحَ حِينَ أَسْفَرَتِ الأَرْضُ، ثُمَّ التَفَتَ إِلَيَّ جِبْرِيلُ، فَقَالَ : يَا مُحَمَّدُ، هَذَا وَقْتُ الأَنْبِيَاءِ مِنْ قَبْلِكَ ، وَالوَقْتُ فِيمَا بَيْنَ هَذَيْنِ الوَقْتَيْنِ )) .
مر أن قول جبريل عليه السلام للنبي صلى الله عليه وسلم (( والوقت فيما بين هذين الوقتين )) فيه تحديد للوقت الإختياري للصلاة , وعلى هذا فهذا الحديث قد حدد الأوقات الإختيارية للصلوات الخمس .
قوله (( أَمَّنِي جِبْرِيلُ عِنْدَ البَيْتِ مَرَّتَيْنِ )) كان هذا صبيحة الإسراء عند الزوال فقد نزل جبريل فصلى بالنبي صلى الله عليه وسلم , قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ (( لَمْ يُخْتَلَفْ أَنَّ جِبْرِيلَ هَبَطَ صَبِيحَةَ الْإِسْرَاءِ عِنْدَ الزَّوَالِ فَعَلَّمَ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الصَّلَاةَ وَمَوَاقِيتَهَا وَهَيْئَتَهَا )) .
قوله (( فَصَلَّى الظُّهْرَ فِي الأُولَى مِنْهُمَا حِينَ كَانَ الفَيْءُ مِثْلَ الشِّرَاكِ )) والفيئ هو ظل الزوال والشراك هو أحد سيور النعل التي تكون على ظهرها , والمعنى أن ظل الزوال (( الفيء )) أصبح بقدر الشراك , وقد كان بمكة وقتها بهذا القدر , وإلا فإن مقدار ظل الزوال يختلف باختلاف الأزمنة والأمكنة , ففي مكة إذا استوت الشمس فوق الكعبة لم يرى من جوانبها ظل حتى تميل قليلا , فإن مالت ظهر الظل , وكلما كان البلد أقرب إلى خط الإستوء كان فيئ الزوال فيه أقصر .
فالوقت الإختياري لصلاة الظهر يبدأ من زوال الشمس , فالظل يبدأ صباحا في التناقص شيئا فشيئا وفي وقت الزوال يصل إلى أقصر طول له , هذا الظل يسمى فيئ الزوال , ثم تميل الشمس إلى الغرب فيبدأ طول ظل الأشياء في الزيادة , وعندما تصبح هذه الزيادة مساوية لظل الشيئ ينتهي الوقت الإختياري للظهر , فالوقت الإختياري للظهر يبدأ من الزوال إلى أن يصير ظل كل شيئ مثله طبعا دون احتساب فيئ الزوال , وهذا معنى قوله (( وَصَلَّى المَرَّةَ الثَّانِيَةَ الظُّهْرَ حِينَ كَانَ ظِلُّ كُلِّ شَيْءٍ مِثْلَهُ لِوَقْتِ العَصْرِ بِالأَمْسِ ))
قوله (( ثُمَّ صَلَّى العَصْرَ حِينَ كَانَ كُلُّ شَيْءٍ مِثْلَ ظِلِّهِ )) أي بعد فيئ الزوال كما مر , فالوقت الإختياري لصلاة العصر يبدأ بعد ازدياد طول الظل بمقدار طول الأشياء دون احتساب فيئ الزوال , وينتهي بمصير ظل كل شيئ مثليه طبعا بعد فئ الزوال وذالك معنى قوله (( ثُمَّ صَلَّى العَصْرَ حِينَ كَانَ ظِلُّ كُلِّ شَيْءٍ مِثْلَيْهِ )) .
هذا مذهب الجمهور في نهاية وقت الظهر وبداية وقت العصر , وقال أبو حنيفة ينتهي وقت الظهرويبدأ وقت العصر بمصير ظل الشيئ مثلية وعلى هذا القول اغلب متأخري الحنفية , قال القرطبي (( خَالَفَهُ النَّاسُ كُلُّهُمْ فِي ذَلِكَ حَتَّى أَصْحَابُهُ )) .
وظاهر حديث ابن عباس أن الوقت الإختياري للعصر ينتهي بمصير ظل كل شيئ مثليه , ويعارضه حديث عبد الله ابن عمرو في صحيح مسلم وفيه (( وقتُ العصرِ ما لم تَصفَرَّ الشَّمسُ )) , وقد أخذ بهذا المالكية فوقت العصر الاختياري ينتهي باصفرار الشمس .
قوله (( ثُمَّ صَلَّى المَغْرِبَ حِينَ وَجَبَتِ الشَّمْسُ وَأَفْطَرَ الصَّائِمُ )) ومعنى وجبت الشمس أي غربت فبداية وقت المغرب الإختياري يبدأ من غروب الشمس إجماعا , وقوله (( ثُمَّ صَلَّى المَغْرِبَ لِوَقْتِهِ الأَوَّلِ )) تمسك به المالكية والشافعية في أن وقت المغرب ضيق , فالمالكية قالوا وقت المغرب الإختياري هو بمقدار التطهر لها وأدائها , وذهب الجمهور أن وقتها يمتد إلى مغيب الشفق , فقال الجمهور الشفق هو الحمرة لحديث عبد الله بن عمرو في صحيح مسلم (( وَوَقْتُ صَلَاةِ المَغْرِبِ إذَا غَابَتِ الشَّمْسُ، ما لَمْ يَسْقُطِ الشَّفَقُ )) .
قوله (( ثُمَّ صَلَّى العِشَاءَ حِينَ غَابَ الشَّفَقُ )) أي الشفق الأحمر , وقوله (( ثُمَّ صَلَّى العِشَاءَ الآخِرَةَ حِينَ ذَهَبَ ثُلُثُ اللَّيْلِ )) هذا نهاية الوقت الاختياري عند المالكية , وأخذ غيرهم بحديث عبد الله بن عمرو وفيه (( وَوَقْتُ صَلَاةِ العِشَاءِ إلى نِصْفِ اللَّيْلِ )) , ووجه من رجح حديث ابن عمرو أن دلالته على أن الوقت من ثلث الليل إلى نصفه داخل في وقت العشاء هو منطوق الحديث , وأن هذا الوقت ليس من وقت العشاء مستفاد من حديث ابن عباس من مفهوم اللفظ والمنطوق مقدم على المفهوم .
مسألة 1 : هل بين الظهر والعصر اشتراك في الوقت الاختياري
والمسألة التي تدرس هنا هل بين الظهر والعصر اشتراك في الوقت الإختياري , أم أنه لا اشتراك بينهما , المشهور عند المالكية أن هناك اشتراكا بين الوقتين بقدر أربع ركعات , وهل الظهر هي التي تشترك مع العصر في وقتها أم العكس خلاف عند المالكية , واعتمد المالكية على قوله (( وَصَلَّى المَرَّةَ الثَّانِيَةَ الظُّهْرَ حِينَ كَانَ ظِلُّ كُلِّ شَيْءٍ مِثْلَهُ لِوَقْتِ العَصْرِ بِالأَمْسِ )) .
وذهب الجمهور من العلماء أنه لا اشتراك بين الظهر والعصر وهو قول ابن حبيب وابن العربي من المالكية , وعمدتهم حديث عبد الله بن عمر في صحيح مسلم (( وَقْتُ صَلَاةِ الظُّهْرِ مَا لَمْ يَحْضُر الْعَصْرُ )) , فهذا الحديث صريح في عدم الإشتراك وأولوا حديث ابن عباس فجعلوا معنى (( ثُمَّ صَلَّى العَصْرَ حِينَ كَانَ كُلُّ شَيْءٍ مِثْلَ ظِلِّهِ )) أي شرع في صلاة العصرعند مصير ظل كل شيئ مثله , وجعلوا معنى صلى في قوله (( وَصَلَّى المَرَّةَ الثَّانِيَةَ الظُّهْرَ حِينَ كَانَ ظِلُّ كُلِّ شَيْءٍ مِثْلَهُ لِوَقْتِ العَصْرِ بِالأَمْسِ )) بمعنى فرغ .
قال ابن العربي في كتابه المسالك شرح موطأ الإمام مالك (( قوله : " فَصَلَّى بِيَ الظُّهْرَ في الْيَوْمِ الأَوَّل" معناه : ابتداءً، وكذلك في جميع الصّلوات ، "وَصَلَّى بِيَ الظُّهرَ في اليومِ الثاني" معناه : فرَغَ من جميعِ الصّلواتِ وبذلك يتحدَّدُ الأوَّلُ من الأوقاتِ )) ثم قال مجيبا عن الإشكال في قوله (( لوقت العصر بالأمس )) قال : (( فإذا ثبت هذا، فجاء في لفظ الحديث : "وَصَلَّى بِيَ الظُّهْرَ في اليَوْمِ الثَّاني حِينَ صارَ ظِلُّ كُلِّ شَيءٍ مِثْلَهُ لِوَقتِ الْعَصرِ بِالأَمْسِ" فاحتَمَلَ أنّ يكونَ معنى قوله "فَصَلَّى" بدأ أو خَتَمَ ، فأنشأَ هذا بين العلماء اختلافًا في اشتراك الظُّهر والعصر، وتالله ما بينهما اشتراكٌ، ولقد زَهَقَتْ فيه أقدام العلماء، ولأنّه إن لم يكن معنى قوله: "وَصَلَّى بِي الظُّهْرَ في اليوم الثّاني حينَ صارَ ظلُّ كلِّ - شيءٍ مثلَهُ لوقتِ العصر بالأمسِ": فَرَغَ لم يَكُن بيانٌ ، وإن كان معناه فَرَغَ ضرورةً لم يكن اشتراكٌ ، فتبيَّنَ بهذا أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بدأ في اليوم الأوّل بالعصر حينَ صارَ ظلُّ كلِّ شيءٍ مثلَه، وفَرَغَ في ذلك اليوم من الظّهر، فصارَ آخرُ الظُّهرِ أوَّلُ العصرِ، والله أعلم )) .