حكم إسبال الثياب رؤية تأصيلية تفصيلية وبيان مآخذ العلماء وأدلتهم
اتفق
العلماء كافة على أن الإسبال بقصد الخيلاء أي التكبر محرم قطعا ، وأما الإسبال
بغير قصد التكبر فجماهير أهل العلم يرون عدم حرمته فبعضهم قال بالجواز دون كراهة
والأغلب قالوا بالكراهة وهو قول الشافعية والمعتمد عند المالكية والصحيح عند
الحنابلة .
قال
العدوي المالكي ((وَعِبَارَةُ الْمُصَنِّفِ تَقْتَضِي أَنَّهُ يَجُوزُ لِلرَّجُلِ
أَنْ يَجُرَّ ثَوْبَهُ أَوْ إزَارَهُ إذَا لَمْ يَقْصِدْ بِذَلِكَ كِبْرًا أَوْ
عُجْبًا )) حاشية العدوي على كفاية الطالب الرباني ج 2 ص 452 ، ثم قال ((
وَبَعْضُهُمْ جَعَلَ الْقَوْلَيْنِ بِالْحُرْمَةِ وَالْكَرَاهَةِ ، وَالْقَوْلُ
بِالْكَرَاهَةِ هُوَ الْمُعْتَمَدُ )) ج 2 ص 454
قال النووي الشافعي (( يَحْرُمُ إطَالَةُ
الثَّوْبِ وَالْإِزَارِ وَالسَّرَاوِيلِ عَلَى الْكَعْبَيْنِ لِلْخُيَلَاءِ
وَيُكْرَهُ لِغَيْرِ الْخُيَلَاءِ نَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ فِي
الْبُوَيْطِيِّ وَصَرَّحَ بِهِ الْأَصْحَابُ )) المجموع ج 4 ص 454
قال المرداوي الحنبلي (( وَيُكْرَهُ زِيَادَتُهُ
إلَى تَحْتِ كَعْبَيْهِ بِلَا حَاجَةٍ ، عَلَى الصَّحِيحِ مِنْ الرِّوَايَتَيْنِ.
وَعَنْهُ " مَا تَحْتَهُمَا فِي النَّارِ " وَذَكَرَ النَّاظِمُ : مَنْ
لَمْ يَخَفْ خُيَلَاءَ لَمْ يُكْرَهْ. وَالْأَوْلَى تَرْكُهُ ، هَذَا فِي حَقِّ
الرَّجُلِ. )) الإنصاف في معرفة الراجح من الخلاف ج 1 ص 472 .
فواضح أن الأقوال في المذاهب الفقهية ثلاثة
الحرمة الكراهة والجواز والأغلب قالوا بالكراهة ، وسبب الخلاف في هذه المسألة يرجح
إلى الخلاف في الأخذ بقاعدة حمل المطلق على المقيد وهي قاعدة أصولية .
توضيح قاعدة حمل المطلق على المقيد
الإطلاق والتقييد توصف بهما الألفاظ ، فالألفاظ
قد تكون مطلقة وقد تكون مقيدة بوصف أو بمعنى ، مثال ذالك قال تعالى لبني اسرائيل
(( ان الله يامركم ان تذبحوا بقرة )) ، البقرة لفظ مطلق أي لم يقيده الله عز وجل
بأي وصف فلفلظ البقرة هنا يصدق على أي بقرة بغض النظر عن لونها وطولها ووزنها ووبلدها
وغير ذالك من الصفات ( القيود ) ، ولما سألوا موسى عن هذه البقرة قال لهم الله ((
بقرة صفراء فاقع لونها )) فأصبح لفظ البقرة مقيدا بقيد لا بد أن يتحقق وهو كونها
صفراء فاقع لونها ، وأصبح الإمتثال لا يقع إلا بهذه النوع بعدما كان في البداية
يحصل بأي بقرة ، والأبقار التي هي صفراء فاقع لونها أعدادها كثيرة فيمكن تقييد هذا
اللفظ مرة أخرى كما حدث في القرآن فقال بعد سؤالهم مرة أخرى (( لا ذلول تثير الأرض
ولا تسقي الحرث مسلمة لا شية فيها )) وأصبحت القيود الآن كثيرة ، فيمكن تقييد
الألفاظ بقيود كثيرة .
هذا من حيث معنى الإطلاق والتقييد وأما من حيث
العلاقة بين المطلق والمقيد ، فلا بد قبل ذالك من معرفة شيئين :
الأول : نصوص الشارع تتضمن سببا وحكما مرتبطا به ، قال
تعالى (( حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ )) ففي هذا النص حكم وهو حرمة الأكل ،
وسبب وهو كونها ميتة ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (( طهور إناء احدكم إذا
ولغ فيه الكلب أن يغسله سبعا )) ففي النص حكم وهو غسل الإناء سبعا وسبب وهو ولوغ
الكلب .
الثاني : التقييد يكون في السبب ويكون في الحكم ، فقوله
صلى الله عليه وسلم في ماء البحر (( الحل ميتته )) ، فكأن النبي قال ميتة البحر
حلال ، فالحكم هنا جواز الأكل والسبب كون هذا المأكول ميتة وقُيِّد بكونه ميتة
البحر فالتقييد هنا في السبب ، ومثال التقييد في الحكم قوله تعالى (( أيديكم إلى
المرافق )) فالحكم غسل اليدين والسبب الوضوء ، وقد ورد هنا الحكم مقيدا فقد قيد
الغسل بكونه إلى المرفقين .
وأما العلاقة بين المطلق والمقيد إذا وردا في
نصين فهي تجري في السبب والحكم ، فقد يتفق السبب والحكم في النصين فيحمل المطلق
على المقيد ، ومعنى نحمل المطلق على المقيد أي نفسر المطلق بالمقيد ، مثاله قال
تعالى (( حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ
)) فالحكم حرمة الأكل والسبب كونه دما وهو هنا مطلق غير مقيد ، ولكنه ورد في نص
آخر مقيدا قال تعالى (( قُل لَّا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ
مُحَرَّمًا عَلَىٰ طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَن يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا
مَّسْفُوحًا )) ومعنى الدم المسفوح الدم الخارج من الذبيحة بعد
الذبح ، فالدم المسفوح الخارج بعد الذبح محرم الأكل ، فالحكم هنا حرمة الأكل
والسبب كونه دما لكنه ورد مقيدا ، لاحظ هنا الحكم واحد وهو حرمة الأكل والسبب واحد
وهو كون هذا المأكول دما ، لكن في الآية الأولى لم يقيد وفي الآية الثانية الدم
قيد ، فحمل المطلق على المقيد يقتضي تفسير الآية الأولى وفق الثانية فيصبح معناها
(( حرمت عليكم الميتة والدم المسفوح )) .
هذا في حالة اتفاق الحكم والسبب فيحمل المطلق على
المقيد اتفاقا ونقل بعضهم الخلاف عن الحنفية ، وأما إذا اختلف الحكم والسبب فلا
يحمل المطلق على المقيد اتفاقا ، وأما إن اختلافا في الحكم واختلفا في السبب فلا
يحمل اتفاقا ، والصورة الرابعة أن يتفقا في الحكم ويختلفا في السبب فهذه الصورة
محل خلاف بين العلماء .
الإسبال وقاعدة حمل المطلق على المقيد
النصوص التي وردت في الإسبال بعضها أطلقته وبعضها
قيدته فمن النصوص التي قيدته قول رسول الله صلى الله عليه وسلم (( مَنْ جَرَّ
ثَوْبَهُ خُيَلاَءَ ، لَمْ يَنْظُرِ اللَّهُ إِلَيْهِ يَوْمَ القِيَامَةِ )) فالإسبال
قيد في النص بالخيلاء ، ومثال النصوص التي لم تقيد الإسبال بالخيلاء قول رسول الله
صلى الله عليه وسلم (( مَا أَسْفَلَ مِنَ الكَعْبَيْنِ مِنَ الإِزَارِ فَفِي
النَّارِ )) ، فلم يقيد هنا لا بقصد الخيلاء ولا بغير قصد الخيلاء فهو مطلق ، فلننظر
إلى عمل الفقهاء مع هذه الآحاديث :
الطائفة الأولى : التي قالت بالحرمة كالإمام الصنعاني وابن العربي
والقاضي عياض وإحدى الراويتين عن الإمام أحمد وبعض المعاصرين ، هؤلاء قالوا لا
يحمل المطلق على المقيد هنا ، ووجهة نظرهؤلاء :
أن الإختلاف هنا قد حصل في الحكم فالسبب واحد وهو
الإسبال ، لكن الحكم مختلف في الحديثين ، فالذي يجر ثوبه بقصد الخيلاء عقوبته لا
ينظر الله إليه يوم القيامة والذي يجره بغير قصد الخيلاء يعذب أسفل كعبيه في النار
قالوا وهما حكمان مختلفان ، والذي يدل على أنهما حكمان مختلفان ورودهما في حديث
واحد قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم (( وما
كان أسفلَ منَ الكعبين فهو في النار، ومَن جرَّ إزارَهُ بطراً لم يَنْظُرِ الله
إليه )) .
ولم يسلم الجمهور لهم بأن عدم النظر عقوبة مستقلة
فعدم النظر في الحديث معناها عدم الرحمة قال الحافظ ابن حجر (( قَوْلُهُ لَا
يَنْظُرُ اللَّهُ أَيْ لَا يَرْحَمُهُ )) . بمعنى أن الله سيعذبه والعذاب الذي
سيعذب به ذكر في النص وهو أنه سيعذب أسفل كعبيه بالنار ، ويمكن القول أن حديث ((
ما أسفل من الكعبين فهو في النار )) أي فصاحب هذا الإسبال في النار ، فيكون الضمير
(( هو )) عائد للفاعل وليس عائدا لموضع الإسبال ، فيكون الحكم واحدا ، قال الملا
القاري في مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح ج 7 ص
2776 (( فَهُوَ أَيْ صَاحِبُهُ فِي نَارِ جَهَنَّمَ بِسَبَبِ الْإِسْبَالِ
النَّاشِئِ عَنِ التَّكَبُّرِ وَالِاخْتِيَالِ )) .
قالوا ومع ذالك فلو سلمنا أن عدم النظر إليه
عقوبة تختلف عن التعذيب بالنار أسفل الكعبين ، فالمشكلة على هذا القول أن حديث ((
مَا أَسْفَلَ مِنَ الكَعْبَيْنِ مِنَ الإِزَارِ فَفِي النَّارِ )) يتناول الذي
يجره للخيلاء والذي يجره لغير الخيلاء ، فاللفظ ورد مطلقا وعدم حمل المطلق على
المقيد يقتضي العمل بما دل عليه الإطلاق ، وقد دل أن كليهما سيعذبان أسفل كعبيهما
بالنار وعليه فينبغي أن يكون الحكم على هذا القول كما يلي :
المسبل لغير خيلاء
حكمه أنه يعذب أسفل كعبيه في النار فقط ، وأما المسبل خيلاء فحكمه مركب من شيئين
أنه يعذب أسفل كعبيه في النار زيادة على ذالك فإن الله لا ينظر إليه ، هذه النتيجة
سوف تكون منطلقا للطائفة الثانية .
ومع ذالك فإن أصحاب هذا القول سيقعون في مشكلة اخرى
، فإننا إذا اعتبرنا أن النص إذا ذكر عقوبة لم يذكرها نص آخر كان الحكم مختلفا ،
سنقع في التناقض والحيرة فقد صح في الحديث أيضا (( ثَلَاثَةٌ لَا يُكَلِّمُهُمُ
اللهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ، وَلَا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ وَلَا يُزَكِّيهِمْ
وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ » وذكر الحديث فيهم (( المسبل )) ، فالإسبال هنا ورد
مطلقا غير مقيد والحكم تضمن أربع عقوبات بحسب طريقة هذه الطائفة ، حينها نسأل أي
إسبال يقصد هذا الحديث ، طبعا سيقولون المسبل بقيد الخيلاء ، حينها يقال لهم ولكن
الحكم مختلف فلا يحمل المطلق على المقيد أي ينبغي أن يبقى هذا الحديث حالة ثالثة ،
وهذا غير ممكن وهم لا يقولون بذالك بل يجعلونه مع الحالة الأولى وهي الإسبال بقصد
الخيلاء وبالتالي فهم بذالك يُقِرون أن الحكم واحد في الحديثين ، وعليه فذكر عقوبة
أخرى في هذه الاحاديث لا تعني الإختلاف في الحكم ، وهذا ما يقوله الطائفة الثانية
، وأمر آخر إن عقاب الله كله أليم فيكون قوله (( ما أسفل الكعبين من الإزار ففي
النار )) مندرج تحت قوله (( ولهم عذاب أليم )) وعليه فالآحاديث الثلاثة كلها الحكم
فيها واحد .
الطائفة الثانية : وهم جماهير العلماء وقد مر أنه المعتمد عند
المالكية والصحيح عند الحنابلة وهو مذهب الشافعية ، هؤلاء جميعا قالوا يحمل المطلق
على المقيد ، للإتحاد في الحكم والسبب فالسبب الإسبال والحكم العذاب الأليم ولا
ينظر الله إليه يوم القيامة ولا يزكيه وقد مر وجه إستنباط الحكم من مجموع النصوص
كي تتفق ولا تختلف كما مر عند مناقشة أصحاب القول الأول .
قال الحافظ زين الدين العراقي في طرح التثريب ج 8
ص 173 (( التَّقْيِيدُ بِالْخُيَلَاءِ يَخْرُجُ مَا إذَا جَرَّهُ بِغَيْرِ هَذَا
الْقَصْدِ ، وَيَقْتَضِي أَنَّهُ لَا تَحْرِيمَ فِيهِ ))
قال الإمام النووي في شرح مسلم ج 14 ص 62 – 63 ((
وأنه لايجوز إِسْبَالُهُ تَحْتَ الْكَعْبَيْنِ إِنْ كَانَ لِلْخُيَلَاءِ فَإِنْ
كان لغيرها فهومكروه وَظَوَاهِرُ الْأَحَادِيثِ فِي تَقْيِيدِهَا بِالْجَرِّ
خُيَلَاءَ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ التَّحْرِيمَ مَخْصُوصٌ بِالْخُيَلَاءِ وَهَكَذَا
نَصَّ الشافعى على الفرق )) وقال (( وأما الأحاديث المطلقة بأن ما تحت
الْكَعْبَيْنِ فِي النَّارِ فَالْمُرَادُ بِهَا مَا كَانَ لِلْخُيَلَاءِ لِأَنَّهُ
مُطْلَقٌ فَوَجَبَ حَمْلُهُ عَلَى الْمُقَيَّدِ )) ، وممن يرى بحمل المطلق على
المقيد هنا شيخ الإسلام ابن تيمية في شرح العمدة (( وهذه منصوص صريحة في تحريم الإسبال على وجه المخيلة والمطلق
منها محمول على المقيد وإنما أطلق ذلك لأن الغالب أن ذلك إنما يكون مخيلة.
))
الإمام البخاري وحديث أبي بكر في الإسبال
وقد رد المانعون على الإستدلال بهذا الحديث بكون
أبا بكر لم يتعمد جر الثوب بل كان يسترخي وحده وأبو بكر يتعهده ، ورد الجمهور على
هذا بقولهم إن النبي علق الحكم بقوله (( لست تصنع ذالك خيلاء )) ولم يقل له لست
تجر ثوبك عمدا أو أنك تتعاهده ، قال الإمام الشوكاني في نيل الأوطار ج 2 ص 133 ((
وَقَدْ عَرَفْت مَا فِي حَدِيثِ الْبَابِ مِنْ قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِأَبِي بَكْرٍ: " إنَّك لَسْت مِمَّنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ
خُيَلَاءَ " وَهُوَ تَصْرِيحٌ بِأَنَّ مَنَاطَ التَّحْرِيمِ الْخُيَلَاءُ ،
وَأَنَّ الْإِسْبَالَ قَدْ يَكُونُ لِلْخُيَلَاءِ ، وَقَدْ يَكُونُ لِغَيْرِهِ ))
قال المانعون أبا بكر زكاه رسول الله بعدم قصد الخيلاء وأجاب المانعون أن النبي صلى الله عليه وسلم في مقام توضيح الأحكام , وليس في مقام المدح والثناء ، فقوله (( لست تصنع ذالك خيلاء )) سيق لبيان سبب – مناط – الحكم كما ذكر الشوكاني وغيره .
وقد قال
المانعون أن إطالة الثوب دالة على الكبر واستدلوا بحديث جَابِرِ بْنِ سُلَيْمٍ
وفِيهِ « وَارْفَعْ إزَارَك إلَى نِصْفِ السَّاقِ ، فَإِنْ أَبَيْتَ فَإِلَى
الْكَعْبَيْنِ ، وَإِيَّاكَ وَإِسْبَالَ الْإِزَارِ فَإِنَّهَا مِنْ الْمَخِيلَةِ
وَإِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمَخِيلَةَ » . قال الأمير الصنعاني في سبل السلام
ج 2 ص 625 (( وَحَاصِلُهُ أَنَّ الْإِسْبَالَ يَسْتَلْزِمُ جَرَّ الثَّوْبِ
وَجَرُّ الثَّوْبِ يَسْتَلْزِمُ الْخُيَلَاءَ وَلَوْ لَمْ يَقْصِدْهُ اللَّابِسُ
وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ مَنِيعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ فِي أَثْنَاءِ حَدِيثٍ رَفَعَهُ
«إيَّاكَ وَجَرَّ الْإِزَارِ فَإِنَّ جَرَّ الْإِزَارِ مِنْ الْمَخِيلَةِ» . )) .
قال الشوكاني في نيل الأوطار ج 2 ص 133 ((
وَقَدْ عَرَفْت مَا فِي حَدِيثِ الْبَابِ مِنْ قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِأَبِي بَكْرٍ: " إنَّك لَسْت مِمَّنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ
خُيَلَاءَ " وَهُوَ تَصْرِيحٌ بِأَنَّ مَنَاطَ التَّحْرِيمِ الْخُيَلَاءُ،
وَأَنَّ الْإِسْبَالَ قَدْ يَكُونُ لِلْخُيَلَاءِ، وَقَدْ يَكُونُ لِغَيْرِهِ
فَلَا بُدَّ مِنْ حَمْلِ قَوْلِهِ " فَإِنَّهَا الْمَخِيلَةُ " فِي
حَدِيثِ جَابِرِ بْنِ عَلِيٍّ أَنَّهُ خَرَجَ مَخْرَجَ الْغَالِبِ، فَيَكُونُ
الْوَعِيدُ الْمَذْكُورُ فِي حَدِيثِ الْبَابِ مُتَوَجِّهًا إلَى مَنْ فَعَلَ
ذَلِكَ اخْتِيَالًا، وَالْقَوْلُ بِأَنَّ كُلَّ إسْبَالٍ مِنْ الْمَخِيلَةِ
أَخْذًا بِظَاهِرِ حَدِيثِ جَابِرٍ تَرُدُّهُ الضَّرُورَةُ، فَإِنَّ كُلَّ أَحَدٍ
يَعْلَمُ أَنَّ مِنْ النَّاسِ مَنْ يُسْبِلُ إزَارَهُ مَعَ عَدَمِ خُطُورِ
الْخُيَلَاءِ بِبَالِهِ، وَيَرُدُّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ قَوْلِهِ - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِأَبِي بَكْرٍ لِمَا عَرَفْت.
وَبِهَذَا
يَحْصُلُ الْجَمْعُ بَيْنَ الْأَحَادِيثِ وَعَدَمُ إهْدَارِ قَيْدِ الْخُيَلَاءِ
الْمُصَرَّحِ بِهِ فِي الصَّحِيحَيْنِ، وَقَدْ جَمَعَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ
رِسَالَةً طَوِيلَةً جَزَمَ فِيهَا بِتَحْرِيمِ الْإِسْبَالِ مُطْلَقًا،
وَأَعْظَمُ مَا تَمَسَّكَ بِهِ حَدِيثُ جَابِرٍ. وَأَمَّا حَدِيثُ أَبِي أُمَامَةَ
فَغَايَةُ مَا فِيهِ التَّصْرِيحُ بِأَنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُسْبِلَ،
وَحَدِيثُ الْبَابِ مُقَيَّدٌ بِالْخُيَلَاءِ وَحَمْلُ الْمُطْلَقِ عَلَى
الْمُقَيَّدِ وَاجِبٌ وَأَمَّا كَوْنُ الظَّاهِرِ مِنْ عَمْرٍو أَنَّهُ لَمْ
يَقْصِدْ الْخُيَلَاءَ فَمَا بِمِثْلِ هَذَا الظَّاهِرِ تُعَارَضُ الْأَحَادِيثُ
الصَّحِيحَةُ )) .
هذا ملخص
هذه المسألة فلب المسألة هل يحمل المطلق على المقيد ، وسبب الخلاف الرئيسي هل
الحكم واحد في الحديثين أم مختلف كما مر شرحه ، وكلا الطائفتين قد تمسكت بأدلة
أخرى لم نوردها ولهم مناقشات وردود فيما بينهم ، والمسألة كما ترى تبقى في دائرة
الإجتهاد والإختلاف فيها قديم ، والأدلة والمناقشات أغلبها سيق قديما في كتب الفقه
والحديث والله أعلم .