التطور التاريخي لكتاب المدونة والمختلطة في الفقه المالكي
أمهات كتب الفقه المالكي أربعة المدونة والواضحة والعتبية والموازية . إلا أن للمدونة مكانة خاصة بين هذه الكتب فقد كانت مقدمة على غيرها . وهي الأصل الثاني بعد الموطأ ويكفي لبيان أهميتها أنها خلاصة جهد ثلاث أئمة مالك وابن القاسم وسحنون . فما قصة هذا الكتاب العظيم ؟
التطور التاريخي لكتاب المدونة والمختلطة في الفقه المالكي |
المصادر الأساسية التي تضمنت أقوال مالك رحمه الله كتابه الموطأ والأمهات الأربعة وهي :
- الواضحة لابن حبيب وهو من تلاميذ ابن القاسم , وهذا الكتاب اشتهر في الأندلس ثم طغت عليه العتبية فهجر .
- العتبية لمحمد العتبي وتسمى أيضا بالمستخرجة , وقد اشتهرت في الأندلس . وعليها شرح ابن رشد المعروف بالبيان والتحصيل .
- الموازية لابن مواز واشتهرت عند المصريين .
- المدونة الكبرى واشتهرت عند المصريين والقيراونيين وهي موضوع حديثنا
ويضيف بعضهم لهذه الأربع كتاب المجموعة لابن عبدوس وهو من تلاميذ ابن سحنون . ولكن لما كان موضوع حديثنا عن المدونة فسنقتصر عليها .
التأليف والتصحيح والتنقيح لكتاب المختلطة
تنسب المدونة للإمام مالك باعتبار أن أغلب ما فيها من أقوال هي أقواله رحمه الله , كما تنسب لابن القاسم باعتبار أنها تضمنت أيضا كثيرا من أقواله وآرائه المخرجة على أقوال أو أصوله , كما تنسب أيضا لسحنون باعتبار أنه هو من قام بتصحيحها وتهذيبها , أما النسبة لأسد بن فرات فلا تكاد تذكر مع أن البداية كانت معه .
تبدأ قصة المدونة مع تلميذ الإمام مالك أسد بن فرات الذي لازم مالكا ثلاث سنوات وسمع منه الموطأ , غير أن أسدا كان يتميز بكثرة الأسئلة والتفريعات الإفتراضية , ومعروف عن الإمام مالك كرهه لمثل هذه المناهج , فأشار عليه إن كان يحب الرأي أن يذهب للعراق .
رحل أسد بن فرات للعراق وهناك التقى محمد بن الحسن الشيباني وبعضا من تلاميذ الإمام أبا حنيفة . فناقش معهم مسائل فقهية ودونها في مصنف خاص , وظل في العراق حتى توفي الإمام مالك رحمه الله , ولما رأى تأسف الناس على علم مالك ندم على مفارقته , فقرر الذهاب إلى مصر لعله يلتقي بعضا من تلاميذ الإمام مالك الملازمين له ملازمة طويلة فيأخذ عنهم , وهناك التقى عبد الله ابن وهب وطلب منه أن يجيبه عن ما جاء به من العراق مما كتبه على أصلهم . فلما أراد أن يسأله في مسائل افتراضية قال له ابن وهب حسبك .
توجه أسد إلى أشهب ولكنه وجده يخطئ مالكا ويخالفه فتركه , واهتدى بعده لابن القاسم فوجد ضالته التي يريد , فقد كان أسد يسأل ابن القاسم عن رأي مالك فيما جاء بها من مسائل من العراق , وكانا الرجلان أحيانا يختلفان ويتناظران على قياس قول مالك في مسألة ما , فربما رجع أحدهما إلى قول الآخر حتى كتب عنه ستين كتابا , وهي الكتب التي سميت فيما بعد بالأسدية . إلا أن الأسدية كانت تحتاج لمراجعة وتصحيح , فلما عاد أسد للقيروان ورأى الناس إشتمالها على ألفاظ من مثل ( أخال , وأظن , وأحسب ) أظهرو تحفظا منها . فقد كان ابن القاسم يجيب أسدا فيما شك فيه بتلك الألفاظ .
وفي هذه المرحلة ظهر دور رجل ثالث هو تلميذ أسد . الإمام سحنون ليتولى مهمة التصحيح والمراجعة , فقام سحنون بأخذ نسخة من الأسدية ورحل بها إلى ابن القاسم في مصر , وهناك طلب منه أن يسمعه المدونة ليدقق ما فيها , فأسقط ابن القاسم كل ما كان من باب الظن , وكل ما يشك في نسبته للإمام مالك فإن لم يجد لمالك عنده قولا إجتهد ابن القاسم في تخريج المسألة على أصول مالك وأقواله .
عاد سحنون إلى القيروان بالمدونة منقحة ومصححة على ابن القاسم , ومع سحنون كتاب من ابن القاسم أرسله إلى أسد يطالبه فيه أن يصحح الأسدية وفق ما في المدونة فأبى ذالك . ولما كانت المدونة مصححة على ابن القاسم أخذ بها الناس وتركوا الأسدية .
وكانت المدونة في هذه المرحلة لازالت مختلطة الأبواب غير مرتبة في مسائلها , وليس عليها تراجم أبواب أو عناوين مسائل . وهنا جاءت المرحلة الثانية بعد المراجعة وهي مرحلة التنظيم والتنقيح , فقام سحنون بتبويبها فطرح منها بعض المسائل ورتبها كما ترتب التصانيف , واحتج لمسائلها بالأحاديث والآثار خاصة من موطأ ابن وهب . ولكنه توفي قبل أن يكملها فبقيت أبواب منها على أصلها من اختلاط المسائل , فسميت هذه الأبواب بالمختلطة وهي أبواب معلومة ذكرها القاضي عياض وغيره .
فالأسدية مرت بمرحلتين الأولى مرحلة المراجعة والتصحيح على ابن القاسم , والمرحلة الثانية هي مرحلة التنقيح والتهذيب والتبويب , وبقيت كتب منها سميت بالمختلطة فالمختلطة هي الكتب الفقهية من الأسديَّة التي عرضها سحنون على ابن القاسم وصحَّحها عليه ، ولكنه لم ينظر فيها النظرة الأخيرة التي ذكرها القاضي عياض وهي التنقيح والتنظيم , ولذا فالبعض يسميها المدونة والمختلطة لما تضمنته من تلك الأبواب التي لم تهذب ، ويذكر القاضي عياض أن أول من بوب الأبواب التي لم ينقحها سحنون هو الفقيه أبو أيوب سليمان بن عبد الله بن المبارك .
منزلة المدونة في الفقه المالكي
تعد المدونة الأصل الثاني عند المالكية في تقرير أقوال الإمام مالك بعد الموطأ , فهي قد تضمنت خلاصة اجتهادات أربع من كبار العلماء مالك وأسد بن فرات وابن القاسم وسحنون . وأصبح المشهور في المذهب عند المغاربة هو قول ابن القاسم إذا كان في المدونة . وتفصيل المسألة كما قال ابن فرحون هي على النحو التالي :
قول الإمام مالك في المدونة مقدم على قول ابن القاسم , وقول ابن القاسم فيها أول من قول غيره فيها لأنه أعلم بمذهب مالك , وقول غيره في المدونة أولى من قول ابن القاسم في غير المدونة لأن المدونة أصح . فالمشهور هو قول ابن القاسم إذا كان في المدونة .
فللمدونة أهمية كبرى في الفقه المالكي . ولذا فقد تلقاها الناس شرحا واختصارا وتهذيبا وحلا لمشكلاتها . ومن أهم المختصرات على المدونة والذي أخذ مكانة عالية في الفقه المالكي كتاب تهذيب المدونة البراذعي , حتى أن البعض أصبح يطلق إسم المدونة على هذا المختصر , فهذا المختصر سهل الألفاظ لا يستصعبه الطالب المبتدئ ولا يستغني عنه المنتهي .
يعود سبب تأليف البراذعي لمختصره أن المدونة صعبة على طلاب العلم , فقام بتقريبها وتسهيلها محافظا على ترتيب المدونة مع بعض التصرف في قليل من الأبواب تقديما وتأخيرا , وكان منهجه الإختصار والإيجاز دون الإخلال بأصل الكتاب ودون تعقيد في العبارة والألفاظ .