recent
أخبار ساخنة

لفتات تربوية من سورة الحجرات

الصفحة الرئيسية

لفتات تربوية من سورة الحجرات


سورة الحجرات من السور المدنية إتفاقا , وقد عدها بعض العلماء أول سور المفصل . وقد احتوت على ست نداءات خمس منها نداء للمؤمنين وواحد منها لجميع الناس , والقرآن لا ينادي إلا ليوصي بخير أو ينهى عن شر .
تفسير سورة الحجرات
لفتات تربوية من تفسير سورة الحجرات
سميت بالحجرات لورود هذا اللفظ فيها والحجرات هي بيوت النبي صلى الله عليه وسلم . وقد اشتملت بوجه عام على توجيهات تربوية ولذا سماها بعضهم سورة الآداب .

إن هذه السورة تحدد بما فيها من قواعد تربوية معالم المجتمع المسلم , فتشرح بآياتها المتناسقة أصول الأخلاق وآداب المعاملات , ويمكل تقسيم السورة لثلاث محاور كبرى .

المحور الأول : أدب التعامل مع الله ورسوله .


يبدأ هذا المحور من الآية الأولى إلى الآية الخامسة , ففي الآية الأولى تبدأ السورة بخطاب موجه للمؤمنين معلنة لفتة تربوية في التعامل مع الله ورسوله . فبينت أن ذالك من لوازم الإيمان . فتضمنت نهيا قال فيه المولى (( لاَ تَقَدَّمُوا )) وفي القراءة الأخرى (( لَا تُقَدِّمُوا )) , وعلى القراءتين فالمعنى واحد وهو نهي الله عز وجل عن تقديم القول أو الفعل بين يدي الله ورسوله . وفي الآية تشبيه من يفعل فعلا أو يقول قولا دون إذن الله أو رسوله بمن يتقدم مماشِيَهُ فيجعله خلفه .

يبدأ الله عز وجل نهيه هذا بخطابه لقوم آمنوا محذرا إياهم من الوقوع في هذا الفعل , وهو بذالك يُعلمهم كيف يتأدبوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم . فإن له مكانة خاصة ينبغي أن تُحترم فليس هو كواحد منهم . فوصف الإيمان ينبغي أن لا يجتمع مع وصف التقديم فلا تجعلوا أيها المؤمنين لأنفسكم تقدما على رسول الله في أمر أو نهي فلا تفعلوا أمرا دينيا إلا بإذنه وبعد سؤاله ففي الآية معان تربوية تتضمن :


1 . الإرشاد لكيفية التعامل مع الكتاب والسنة : فينبغي أن لا يأتي المرء عملا إلا بعد أن يعلم حكم الشرع فيه . وإلا فقد يقع في التقدم المنهي عنه . ومن صوره أيضا تقديم الآراء على نصوص الشرع . أو تقديم القانون الوضعي على حكم الله ورسوله . فإنها بذالك قد حددت معالم تلقي الدين والقيم والأخلاق والمفاهيم والتصورات .

تأمل أخي المسلم كيف تأدب أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بهذا الأدب . فهذا الخباب يسأل رسول الله في غزوة بدر وقد استحى أن يشير عليه برأي و فقال أهذا المنزل أنزلك الله إياه أم هو الرأي والمكيدة , فلما خبره رسول الله أن هذا رأي وليس وحيا أشار الخباب برأيه .

وهذا عمر رضي الله عنه الذي كانت زوجه عاتكة تخرج لصلاة العشاء والصبح وهو لا يحب ذالك , فقيل لها لم تخرجين وقد تعلمين أن عمر يكره ذالك ويغار . قالت وما يمنعه أن ينهاني ؟ قالوا لها يمنعه قول رسول الله سلى الله عليه وسلم (( لا تمنعوا إماء الله مساجد الله )) .

وهذا ابن عمر يقول سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول (( لا تمنعوا نساءكم المساجد إذا استأذنّكم إليها )) فيقول ابنه بلال (( والله لنمنعُهُن )) فأقبل عليه عبد الله وسبه سبا شديدا قال الراوي (( ما سمعته سبه مثله قط )) ثم قال له (( أخبرك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وتقول والله لمنَعهُنَّ )) 


2 . وفي الآية بيان لقدر رسول الله صلى الله عليه وسلم من وجوه منها : 

  • أن الله جعل التقدم بين يدي رسوله كالتقدم بين يدي الله عز وجل .
  • قوله تعالى (( بين يدي )) أي في مجلسه مما يعني أن رسول الله ينبغي أن يكون المتصدر في المجلس . فهو الأرفع قدرا ومكانة فيه .

ففي هذه الآية لفتة تربوية مع الله ورسوله . فأما الله عز وجل فحاضر أبدا مطلع على عباده سرا وعلنا , وأما رسوله فقد يخفى عنه ما يفعله البعض ولذا فإن الله قال (( واتقوا الله )) فإنكم إن تقدمتم على رسوله في غيبتكم عنه . فالله مطلع لا يغيب عنكم , ثم قال مأكد هذا المعنى (( إن الله سميع عليم )) أي لا يخفى عليه شئ من أقوالكم ولا أفعالكم والسمع يختص بالأصوات والعلم يشملها وغيرها فلماذا خص الله السمع بالذكر والعلم أشمل ؟؟

ثم تحدثت الآية عن مقام التأدب بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم فذكرت أدبين راقيين .

  • الأدب الأول : أدب الكلام في مجلسه . فنبهت المؤمنين أنه لا ينبغي أبدا لهم رفع أصواتهم فوق صوت النبي أثناء حديثهم لبعضهم البعض , فإن في رفع الصوت بحضرته عدم إحترام قدره .
  • الأدب الثاني : عدم الجهر أثناء الحديث لرسول الله صلى الله عليه وسلم كما يجهرُ بعضهم لبعض في حديثهم . فإن لرسول الله مكانة خاصة ومنزلة عالية , ومن الجهر له بالقول مناداته باسمه . بل ينبغي مناداته بنبي الله أو رسول الله صلى الله عليه وسلم , فلا يغتر مغتر برأفة رسول الله وحسن خلقه ولين جانبه ورحمة فؤاده , فيتجاوز الأدب في حضرته أو مجلسه بل لا بد أن يكون الأدب معه  بدافع الإحترام التقوى لا الخوف والقهر .

فهذا الخلق التربوي الذي ينبغي أن يتحلى به المؤمنون من توقير لنبيهم حتى يظهر على نبرات صوتهم , فيتميز في مجلسهم ويكون له قدر خاص , فإن لم يفعلوا فإن الجزاء ما ذكر (( أن تحبط أعمالكم )) ولعلماء التفسير في توضيح الآية مسلكان , فبعضهم قال تقديرها (( خشية أن تحبط أعمالكم )) وقال الآخرون بل تقديرها (( أن لا تحبط اعمالكم )) . 

والحبوط من حبطت الإبل : إذا أكلت الخُضْرَ فنفخ بطونها وربما هلكت فلم تنتفع بأكلها , فكأن هذا الفعل سبب للاعتلال الأعمال الصالحة وهلاكها فلا ينتفع بها , وظاهر الآية يقتضي حبوط جميع الأعمال ف (( أعمالكم )) جمع مضاف وهو من صيغ العموم وحبوط جميع الأعمال لا يكون إلا بالكفر . فاإختلفت توجيهات المفسرين للآية فقيل أن هذا الفعل إثم عظيم يفضي إلى هلاك عظيم حسناته , أو لأن عدم التأدب مع رسول الله صلى الله عليه وسلم قد يفضي للإسترسال واستسهال الفعل حتى يُفضي للكفر .

ومما يذكر في سبب نزول هذه الآية ما رواه البخاري في صحيح أنه لما قدم وفد بني تميم على النبي صلى الله عليه وسلم , اختلف ابو بكر وعمر فأحدهم أشار على رسول الله بتأمير الأقرع بن حابس وأشار الآخر برجل ثان , فعلت أصواتهما فأنزل الله عز وجل (( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ )) فأصبح عمر لا يكلم رسول الله إلا واستفهمه جراء خفض صوته , وكذالك كان أبو بكر لا يكلم رسول الله إلا كأخي السرار يعني كالهمس .

وأخرج الإمام احمد أن هذه الآية لما نزلت إعتزل ثابت بن قيس في بيته حزينا , وقد كان رجلا جهوري الصوت . فأرسل رسول الله من يتفقده بعد غيابه فسأله فقال ثابت قد حبط عملي وأنا من أهل النار فانا الذي أرفع صوتي فوق صوت رسول الله . فلما جاؤوا للنبي وأخبروه قال (( لا بل هو من أهل الجنة )) .

ثم بعد ذالك ذكر الله عز وجل حال الذين يغضون من أصواتهم عند نبيه , فذكر ما ميزهم الله به فقد (( أمتحن الله قلوبهم للتقوى )) أي جعلها خالصة للتقوى . ثم وعدهم الله عز وجل ما سوف يلاقونه في الآخرة من مغفرة وأجر عظيم .

ثم ذكرت السورة ما حدث من سوء أدب في حق رسول الله لما جاءه وفد بني تميم عام الوفود , فلما وصلوا المدينة وكان الوقت وقت الظهيرة حيث كان يقيل النبي في حجرته , فناودوه من وراء الحجرات ثلاث مرات كما هي عادتهم في منادات الملوك , وكان مما قالوا (( يا محمد أخرج إلينا فإن مدحنا زين وإنا ذمنا شين , نحن أكرم العرب )) , فوصف الله عز وجل حال هؤلاء بقوله (( أكثرهم لا يعقلوان )) أي لا يعقلون عقل التأدب مع رسول الله .

ثم أرشدها الله عز وجل إلى الفعل التربوي الذي كان عليهم أن يلتزموه وهو الصبر وعدم العجلة حتى يخرج إليهم نبي الله , فلو فعلوا ذالك لكان خيرا لهم بأن لاقوا الإحترام والتقدير من أهل المدينة ولخرج إليهم رسول الله غير كاره لهم .

المحور الثاني : التثبت في الأخبار وحسن المعاملة .


تحدثنا سورة الحجرات في المحور الثاني منها عن جملة من المعاني التربوية , التي تندرج بوجه عام في آداب التعامل بين أفراد المجتمع المسلم . ويمكن تقسيم هذا المحور لثلاثة أجزاء رئيسية , فالجزء الأول يبدأ من الآية السادسة إلى الآية الثامنة , وقد تضمن توجيه المجتمع المسلم لكيفية التعامل مع الأخبار والإشاعات , وتضمن أيضا بيانا لقدر الإيمان وأهميته .
يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُولَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ
يرى أكثر أهل التفسير أن آية (( إن جاءكم فاسق بنبإ فتبينوا ... )) نزلت في الوليد بن عقبة ذالك أن قبيلة بني المصطلق لما أسلموا أخذ رسول الله العهد منهم بأن يعطوه من زكاة أموالهم في وقت حددوه , فلما دنى هذا الموقت جمع الحارث بن ضرار الزكاة ممن رضي من بني قبيلته , غير أن ساعي رسول الله قد تأخر فظن الحارث أن رسول الله قد منعه لسخطه عليهم , فقرر مع بني قومه الذهاب لرسول الله بزكاة أموالهم .

كان رسول الله في هذا الوقت قد أرسل الوليد بن عقبة لأخذ اموال الزكاة , فلما دنى رأى ما رأى من حالهم فظن أنهم إنما أرادوا قتال رسول الله فعاد وأخبره أن بني المصطلق قد منعوا الزكاة وجاؤوا لقتاله , فأرسل رسول الله خالد بن الوليد ليتثبت فعلم أنما هم قادمون لأداء الزكاة فنزلت الآية .

هذا خطاب ثالث في سورة الحجرات يوجهنا الله فيه للفتة تربوية في كيفية تلقي الأخبار , وقد صدره بقوله (( يا أيها الذين آمنوا )) وقد أعاد النداء لإظهار الإهتمام به , وقد فُسِّر قوله (( فاسق )) بالكاذب والمعنى إن جاءكم كاذب , وليس في الآية ما يشير إلى قصد وصف الوليد بالفاسق لأنه ظن فأخطأ ومن كان هذا حاله فلا يسمى فاسقا أو كاذبا , ثم إن هذه الروايات التي تذكر سببا للنزول قد تتبعها كثير من المحققين فبينوا ضعفها .

ثم حثت الآية الصحابة رضي الله عنهم أن يتذكروا أن بينهم رسول الله فعليهم التثبت والتبين , ولا يفتروا الكذب ولا يقولوا الباطل فإن الله يوحي إليه فيكشف كل مستور , واعلموا أيضا أن الله يسدده ويوجهه ولو أنه أطاع آراءكم وأقوالكم لعاد ذالك عليكم بالعنت أي المشقة , فلو أن الله عز وجل قد وكل الإختيار لأصحاب رسول الله لاختاروا في كثير من الأشياء ما يشق عليهم ولو ظنوه بادئ الأمر ميسورا , ولكن رسول الله مؤيد بوحي السماء .

ثم يذكر الله عز وجل ميزة لهؤلاء أن الله حبب إليهم الإيمان فجعلهم يطيعون قول رسوله ولو خالف قولهم , فأنتم تقدمون طاعته ولو خالفت هواكم , وأنتم لا تقدمون هذه الطاعة حبا فقط بل ولأن الله قد زينها في قلوبكم , فإن المريض قد يحب الدواء لما فيه من شفاء باغضا له لمرارته , لكن هؤلاء يحبون الإيمان لنتائجه الحسنة وهو كذالك مزين عندهم يأخذونه رغبة وحبا .

ومن تحقق بالإيمان جعل الله قلبه باغضا للكفر والفسق والعصيان , فإنه لا يجتمع الإيمان مع حب الكفر ولا يجتمع الفسق مع الإستقامة , كذالك لا يجتمع العصيان مع التسليم والإنقياد , ومن زين الله الإيمان في قلبه وكره إليه الكفر والعصيان فقد آتاه فضلا عظيما ونعمة تامة .

وأما القسم الثاني من هذا المحور فقد تضمن الأمر بالإصلاح بين المؤمنين في حال الحرب , والتذكير بؤخوة الإيمان وما يلزم منها من لوازم النصح والتلاحم فقال (( وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا )) , والسر في عطف هذه الآية على آية التبين أن الأخبار الكاذبة قد تكون سببا لتقاتل الطوائف والجماعات .

في المحرر الوجيز أن الطائفة كما تقع على الجماعة فهي تقع على الواحد , فحكم الآية كما أنه ينطبق على الجماعات فهو كذالك ينطبق على الأفراد , والآية تضمنت النهي عن الإقتتال بين المسلمين كما أنها أرشدت إلى مراتب التعامل مع النزاعات الواقعة بين أفراد الأمة , فذكرت أن المرتبة الأولى هي محاولة الإصلاح بين الطوائف المتقاتلة بأن يستجيب الجميع لحكم الله عز وجل , فإن فشلت مساعي الإصلاح بين المتخاصمين أتت المرتبة الثانية وهي قتال الطائفة الباغية التي أبت التحاكم إلى كتاب الله , فإن فاءت أي عادت ورضيت بحكم الله وجب حينها الحكم بين الطائفتين بالعدل والقسط والإصلاح بينهما .

فهذه الآية أصل في تقرير أحكام الإقتتال بين المسلمين , وهي أصل في أحكام البغاة وعليها عول أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم , وبفعلهم رضي الله عنهم تقررت أحكام البغاة في كتب الفقه وتميزت أحكامهم عن أحكام الخوارج . 

ثم ذكر الله عز وجل علة الإصلاح بين المسلمين وهي أخوة الإيمان , وهو العقد الذي أخذه الله عز وجل عليهم فقال (( إنما المؤمنون إخوة )) أي اخوة الدين ومقتضى هذه الأخوة الإصلاح بين المتخاصمين والمتقاتلين منهم فقال (( فأصلحوا بين أخويكم )) , وقد جيئ بصيغة الحصر التي تفيد المبالغة في تقرير هذه الأخوة .

وأما القسم الثالث من هذا المحور , فقد تضمن النهي عن بعض من مساوئ الأخلاق التي من شأنها أن تسبب فتنا داخل المجتمع المسلم , فذكر أمراضا نفسية خطيرة وهي السخرية والنبز واللمز وسوء الظن والغيبة والتجسس فقال 
لا يسخر قوم من قوم , اجتنبوا كثيرا من الظن , ولا يغتب
هذا النداء هو النداء الرابع للمؤمنين وقد جاء بعد تقرير الأخوة بين المؤمنين , فذكر ما من شأنه أن يفسد هذه الأخوة ونبه عن بعض من مفسداتها مما قد يغفل الناس عنه , فذكر النهي عن السخرية واللمز والنبز وهي إساءات قولية .

والسخرية الإستهزاء بالغير سواء كان للونهم أو شكلهم أو بلدهم أو أصلهم أو كلامهم أو حركاتهم أو بذنب فعلوه , أو بأي شيئ فيه انتقاص لهم ولو كان ذالك مزاحا والنهي هنا للتحريم , وقد خص النساء بذكرهن في الآية مع أن لفظ القوم شامل للرجال والنساء ذالك أن هذا الخلق أكثر شيوعا في النساء , وقوله (( عسى أن يكونوا خيرا منهم )) فقد يكون السخور به أفضل من الساخر كما هو الغالب , فالساخر لا يفعل هذا الفعل القبيح إلا وقلبه قد ملئ من مساوئ الخلاق , وحسبك قول رسول الله صلى الله عليه وسلم (( بحسب أمرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم )) .

وأما اللمز فهو عيب الناس وأصله أن يكون بالقول , والهمز يكون بالفعل وفي التنزيل (( ويل لكل همزة لمزة )) , وقد يكون اللمز بالفعل كالإشارة بالعين أو الأصبع أو غيرهما مما يقصد بها عيب الناس , فمعنى (( لا تلمزوا أنفسكم )) أي لا يعب بعضكم على بعض واللامز لا يلمز نفسه وإنما نزل غيره منزلة اللامز لأن النفوس إذا اجتمعت على شيئ واحد كانت بمنزلة نفس واحدة , وهؤلاء تجمعهم أخوة الإيمان فكانوا كنفس واحدة ونظيره قوله تعالى (( ولا تقتلوا أنفسكم )) .

ثم نهت الآية عن التنابز بالألقاب فقال تعالى (( ولا تنابزوا بالألقاب )) والتنابز تعيير الآخر بلقب يكرهه فالنَّبَزُ اللقب السوء , وهذا اللقب قد يكون لكلمة قالها فأخطأ فيها أو لفعل أو حركة أو لوصف فيه , ويدخل فيه كل وصف لا يرتضيه صاحبه كأن يقول له يا كلب أو حمار أو فاسق أو كافر وهذا أشد , ثم ذكر الله عز وجل أن التخلق بتلك الأخلاق من سخرية ولمز ونبز يوجب لصاحبها وصف الفسوق . فمن كان هذا شأنه (( بئس الإسم )) الذي سوف يذكر به وهو (( الفسوق بعد )) أن كان يذكر باسم (( الإيمان )) , وفي وصفه بالفسوق دلالة على أن هذه المنهيات محرمة تحريما شديدا .

تنبيه : لفظ الألقاب في الآية عام خصص منه ما كان مكروها بقرينة التنابز , فتكون الألقاب التي تشعر بالشرف غير داخلة في النهي , وكذالك الألقاب التي تشعر بالذم والإنتقاص ولكن مع طول العهد نُسي هذا القصد وهو قصد الذم والإنتقاص وفي الحديث (( أصدق ذو اليدين )) وأيضا (( يا أبا هر )) , وقد لقب علماء الحديث سليمان بن مهران بالأعمش وعبد الرحمن بن هرمز بالأعرج .

ثم انتقلت الآيات للفتات تربوية أخرى تقررها سورة الحجرات فبدأتها بخطاب خامس في السورة لأهل الإيمان , فتحدثت هذه الآيات عن منهيات خفية لا يحس بها الغير , فكانت أولاها هو النهي عن كثرة الظن فكثير منها ظنون سيئة من شأنها أن تولد الغيرة والتحاسد وقد تفضي للإقتتال بين الناس , وفي الحديث (( أياكم والظن فإن الظن أكذب الحديث )) , وجامع الظن السيئ إتهام الناس وتخوينهم من غير قرينة أو دليل بين .

قوله (( أجتنبوا )) بمعنى ابتعدوا بحيث يكون كل واحد في طرف , ولما كان الظن يحصل إضطرارا إذا وجدت دواعيها فالآية تأمر بالإبتعاد عن أسبابه كي لا يقع , وإذا وقع فالواجب التثبت حتى يستبين محله من الصحة والخطإ , وإنما يحاسب الإنسان على ما حدثته نفسه من طنون إذا تكلم بها أو عامل بمقتضى ظنه السيئ غيره .

ثم قال (( ولا تجسسوا )) وهو سلوك خفي يقصد منه صاحبه كشف أمر ما , وقد عطف على الظن لأنه كثيرا ما يكون أثرا من آثاره , وإنما يجوز التجسس إذا قويت القرينة على وجود مفسدة متعدية لغيره أو إحتمال وقوعها , أما المفسدة فيما بينه وبين نفسه كمعصية يفعلها فلا يحل التجسس عليه .

ثم قال (( ولا يغتب بعضكم بعضا )) وهذا نهي عن الغيبة وهو للتحريم وذكر ابن عاشور انها من الكبائر عند المالكية , واعتبرها الشافعية من الصغائر , وحد الغيبة قد ورد في الحديث الشريف فهي (( ذكرك أخاك بما يكره )) , وللغيبة مفاسد جمة منها أنها مفسدة للأخوة الإسلامية ومشغلة صاحبها بأحوال الناس وبما لا يهمه ولا ينفعه بل ويضره , ويستثنى منها صورا نذكر بعضها :
  • ذكر حال الشهود وتجريح الرواة 
  • تحذير الناس من مجاهر بفسق أو مفسد يخشى من فساده
  • الإستفتاء وطلب النصيحة 
فهذه بعض الحالات التي تجوز فيها الغيبة قد دلت عليها السنة النبوية , ثم شبه الله عز وجل حال المغتاب بمن يأكل لحم أخيه ميتا , والإستفهام في قوله (( أيحب أحدكم ... )) تقريري لأنه لا أحد يحب أن يأكل لحم أخيه ميتا , ولذا ذكر الله أنهم كارهون لهذا الفعل فقال (( فكرهتموه )) .

المحور الثالث : حقيقة الإيمان ومكانته


يمكن تقسيم هذا المحور من سورة الحجرات إلى جزئين فالجزء الأول تحدثت فيه الآيات عن أصل الناس وأنه واحد , والتفاضل إنما يكون بالتقوى والعمل الصالح , وقد جاء هذا التذكير بعد النهي السخرية واللمز والنبز والغيبة .

وأما الجزء الثاني من هذا المحور فقد تحدث عن الإيمان والإسلام وذكر أنهما منة من الله عز وجل , وقد جاء هذا في معرض الرد على ما قالتها الأعراب (( آمنا )) ظنا منها أنها بذالك تمن على الله أو على رسوله بهذا الإيمان .

يبدأ الجزء الأول من هذا المحور بخطاب سادس ولكنه في هذه المرة وجهه لكل الناس فقال :

يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثى وَجَعَلْناكُمْ شُعُوباً وَقَبائِلَ لِتَعارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ

فالمعروف عند الناس عامة أن كل طائفة وكل قبيلة وبلد يتفاخرون بما فيهم من ميزات , فيؤدي ذالك لإعجابهم بأنفسهم وربما إحتقارهم لغيرهم من الشعوب والقبائل , فيتفرع عن عذا التفاخر ما نهن عنه الآية من السخرية واللمز والغمز والغيبة وسوء الظن .

والملاحظ أن هذه الآية النداء فيها مصدر بالناس وبقية النداءات في السورة بلفظ المؤمنين , والسر في ذالك أن الآية تضمنت مقصدين : 
  • الأول : تقرير أن الناس متساون في أصل الخلقة الإنسانية , وأن أصلهم كله واحد من آدم وحواء ثم جعلهم بعد ذالك شعوبا وقبائل ليتعارف الناس ويتعاونوا ويتواصلوا ولحوق الأنساب بعضها ببعض , فمعرفة الأنساب مطلوبة ولكن التفاخر بها منهي عنه . فلم يجعل الله إختلاف الأنساب سببا للعداوة والتناحر والتقاتل والتفاخر .
  • الثاني : بيان أن التكريم ليس بالإنتساب لقبيلة ما , أو لشعب أو لطائفة ما بل التكريم والتفاضل يكون بالتقوى وهو سر لا يعلمه إلا الله عز وجل فقد قال (( فلا تزكوا أنفسكم هو أعلم بمن اتقى )) , وقوله (( إن أكرمكم عند الله أتقاكم )) لا يعني عدم وجود مكارم أخرى بين الناس كالأخلاق الحميدة ونقاء النسب , فهذه في المرتبة الثانية بعد التقوى . 
أما عن الجزء الثاني من المحور الثالث من سورة الحجرات فمن قوله تعالى (( قالت الأعراب آمنا )) إلى آخر السورة
تفسير ( قالت الأعراب آمنا قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا )

قوله ( قالت الأعراب آمنا ) والأعراب هم سكان البادية من العرب , وقد اختلف المفسرون في تعيين هؤلاء الأعراب الذين نزلت فيهم الآية فقيل بنو أسد وقيل خزيمة , وعلى هذا انقسمت آراءهم لقسمين :
  • الفريق الأول : الذي أيده الإمام الشوكاني والشيخ محمد الأمين الشنقيطي أن هؤلاء الأعراب الذين نزلت فيهم الآية منافقون وليسوا مسلمون وإنما أطلق عليم الإسلام باعتبار معناه اللغوي وهو الإستسلام والخضوع , فهؤلاء خضعوا ظاهرا ولم يخضعوا باطنا فهو مسلمون ظاهرا فقد امرنا بالحكم على الظواهر , ولكنهم في الباطن كفار بدليل قوله تعالى (( قل لم تؤمنوا )) .
  • الفريق الثاني : أن هؤلاء مسلمون وليسوا منافقون ولكن الإيمان لم يستحكم في قلوبهم , والإيمان المنفي عنه هو كمال الإيمان لا أصله , وممن أيد هذا القول الإمام ابن جرير وابن كثير ونصره الإمام ابن القيم من وجوه عدة منها أن الله أثبت لهم إيمانا فقال (( أن هداكم للإيمان )) 
قوله (( ولما يدخل الإيمان في قلوبكم )) فعلى القول الأول أي لم يدخل الإيمان أصلا إلى قلوبكم , وعلى القول الثاني أي لم يرسخ في قلوبكم ولم يستقر استقرارا تاما بل فيه شيئ من الإرتياب أو الضعف , فحقائق الإيمان لم تستقر بعد في قلوبكم فقد آمنتم خوفا أو طمعا ورجاء , ومعنى (( لا يلتكم )) أي لا ينقصكم من أعمالكم وقوله (( وإن تطيعوا الله ورسوله )) إرشاد لهم للسبيل التي يتقوى بها الإيمان ويزول بها مرض الإرتياب والضعف .

ثم انتقل الله عز وجل لتعليمهم معنى الإيمان الحقيقي فقال (( إنما المؤمنون )) أي الكمل الذين استقر الإيمان في قلوبهم , فإنهم (( آمنوا بالله ورسوله ثم لم يرتابوا )) والريب هو الشك , ثم ذكر دليل الإيمان الصادق المستقر في القلوب وهو الجهاد في سبيل الله بالمال والنفس , فإنه من لم يقوى على الجهاد فذالك دليل ضعف إيمانه .

وفي الآيتين الأخيرتين تأديب من الله لهم وتعليم , فتضمنت شيئين الأول : أن الله أعلم بالدين منكم ومن ذالك الإيمان والكفر , والثاني : أن من أسلم أو أطاع الله عز وجل فليس ذالك منة منه على الله أو رسوله , بل المنة من الله عليه أن هداه الله فليس لله ولا لرسوله فائدة ترجى من إيمان من آمن , فالله لا تنفعه طاعة ولا تضره معصية إنما الطاعة تنفع صاحبها وتضر المعصية فاعلها .

بعض المراجع :


التحرير والتنوير   لابن عاشور 
التعليق على مختصر تفسير ابن كثير    الشيخ خالد السبت
تفسير السعدي 
تفسير ابن جرير  الطبري 
تفسير القرطبي 
أضواء البيان   الشنقيطي 
تفسير سورة الحجرات   الشيخ مصطفى البحياوي 
التفسير القيم    لابن القيم
google-playkhamsatmostaqltradent