شرح الباب الأول من كتاب التوحيد معنى التوحيد أقسامه العلاقة بين أقسامه
شرح معنى التوحيد أقسامه العلاقة بين أقسامه |
بدأ المصنف كتابه بالبسملة طلبا للبركة من الله عز وجل , ومستمدا منه العون مقتديا بكتاب الله عز وجل وامتثالا لحديث أبي هريرة (( كل أمرئ ذي بال لا يبدأ فيه ببسم الله فهو أبتر )) , والبعض يضعف الحديث ومعنى أبتر أي أقطع ناقص البركة .
ولم يبدأ المصنف كتابه بالحمدلة مع ورود الحديث فيها كوروده في البسملة, وأجيب عن ذالك أن المقصود بالبدأ بالحمدلة الثناء على الله عز وجل وقد حصل بالبسملة , وقيل لعله قالها لفظا ولم يدونها خطا كما هو الشأن في رسائل النبي صلى الله عليه وسلم إلى الملوك فهي سنة فعلية , فكأنه أجراه مجرى الرسائل .
لكن الناظر لعادة المصنف يجد أنه يباشر الناس بالفائدة مباشرة , فيذكر المهم مما يريد أن يكتب كي لا يمل القارئ , فكتبه موجهة للعامة وغير العامة , فراعى فيها العامة كي لا يستثقلوها , ومع ذالك فقد ذكر حفيده الثاني صاحب فتح المجيد أنه قد وقع بين يديه نسخة خطية ذكر فيها المصنف الحمدلة .
قال المصنف (( كتاب التوحيد )) ثم سرد آيات وآثار ولم يقل باب كذا فوقع الخلاف بين الشراح هل هذا هو الباب الأول , أو أن هذا بمثابة مقدمة للكتاب والأقرب أن هذا هو الباب الأول وليس مقدمة للكتاب لوجوه .
- الأول : ذكر في نهاية كتابه (( كشف الشبهات )) أنه قد ذكر في الباب الثاني من كتاب التوحيد تفاضل الناس في التوحيد , والباب الذي ذكر فيها تفاضل الناس في التوحيد هو باب (( فضل التوحيد )) , فيكون هذا هو الباب الأول .
- الثاني : أن المصنف عامله معاملة الأبواب فذكر المسائل المستفادة منه في نهايته .
معنى التوحيد لغة وشرعا
قال المصنف (( كتاب التوحيد )) وهذا مركب إضافي من مضاف وهو كتاب ومضاف إليه وهو التوحيد , وتدور كلمة كتاب على معنى الجمع والضم , ومنه تكتب بنو فلان إذا اجتمعوا , ومنه الكتاب لاجتماع الحروف والكلمات وانضمامها .
قوله (( التوحيد )) الألف واللام (ال ) فيه للعهد الذهني , والمعهود هنا هو توحيد العبودية , والتوحيد مصدر وحد يوحد توحيدا , أي جعله واحدا , فالتوحيد مشتق من الوحدة فالمراد بالتوحيد الإنفراد , والتوحيد تفعيل والمراد به النسبة لا الجعل فالمراد من قولنا وحدت الله أي نسبته للوحدانية , وليس المراد جعل الله واحدا , فالله واحد لا يحتاج لجعل أحد فالوحدانية صفة لله ثابتة له , إلا إذا أريد بجعل الله واحدا أي إعتقادا في القلب , لأن العبد قد يجعل في قلبه عدة آلهة , أما في الخارج فالله واحد بذاته لا بجعل جاعل , وقد قال تعالى (( قل هو الله أحد )) فصفة الوحدانية ثابتة له تعالى أزلا , فالتوحيد فعل المكلف وهو نسبة الله عز وجل للوحدانية قولا , ثم التزام ذالك فعلا فالتوحيد قولي وعملي .
إذن التوحيد لغة هو جعل الشئ واحدا , ولا يتحقق هذا إلا بنفي وإثبات , فالإثبات المحض لا يستفاد منه التفرد , كقولك زيد قائم فلا يلزم من ذالك إختصاص زيد بالقيام , وكذا النفي المحض لا يستفاد منه التفرد , فالتفرد أو التوحيد لا يستفاد إلا باجتماع النفي والإثبات وهما ركنا التوحيد , ولذا كانت صيغة (( لا إله )) نفي و (( إلا الله )) إثبات .
فالنفي إستفدنا منه نفي إستحقاق الألوهية عما سوى الله , والإثبات استفدنا منه إفراد الله باستحقاق الألوهية , فهذا معنى التوحيد لغة , وأما شرعا فالتوحيد بمعناه العام فهو (( إفراد الله تعالى بما يختص به من الربوبية والألوهية والأسماء والصفات )) , فقولنا إفراد جنس في التعريف والإفراد هنا هو بمعنى التوحيد لغة , فمعنى التوحيد لغة قد أخذنا أصله في المعنى الشرعي ثم قيدناه بما يختص به الله عز وجل , فالتوحيد لغة أعم من التوحيد شرعا فالشرعي يختص بالله عز وجل .
أقسم التوحيد وهل التقسيم إجتهادي أم شرعي
أولا أقسام التوحيد القسمة الثلاثية والقسم الثنائية
يقسم العلماء التوحيد بعتبارين , الأول باعتبار المتعلق ويقسم لثلاثة أقسام , والمتعلق هو الإعتقاد أي إعتقاد العبد , فإن تعلق إعتقاد العبد بوحدانية الله في ربوبية , فيسمى توحيد الربوبية نسبة إلى الرب .
والمقصود من توحيد الربوبية إفراد الله عز وجل في أفعاله , كالخلق والتدبير والرزق والإحياء والإماتة واستجابة الدعاء ودفع الضر وجلب النفع فلا يشاركه في أفعاله شئ , فلا يستقل شئ سواه في إحداث أمر أو تدبيره .
أما إن تعلق إعتقاد العبد بألوهية الله واختصاصه بالعبادة , فيسمى توحيد الألوهية أو العبادة , فالعبد يطلب بأفعاله مرضاة الله , ويقصد بأفعاله الله عز وجل , فلا يصرف شيئا من عباداته لغير الله سبحانه وتعالى .
وإن تعلق إعتقاد العبد بأسماء الله وصفاته فيسمى توحيد الأسماء والصفات . وتوحيد الأسماء والصفات هو إفراد الله عز وجل بالكمال المطلق , بالإقرار بما ورد في الكتاب والسنة من أسماء الله الحسنى وصفاته العليا , فنثبت ما أثبته الله لنفسه وننفي ما نفاه الله عن نفسه في القرآن أو السنة بلا تمثيل او تعطيل أو تكييف أو تحريف , وجماع الأمر إثبات بلا تشبيه وتنزيه بلا تعطيل .
ويقسم التوحيد إلى قسمين باعتبار ما يجب على المكلف , فما يجب على المكلف إما علم وإما عمل , والأول هو توحيد المعرفة والإثبات , ويسمى أيضا التوحيد العلمي أو الخبري , وهذا متعلقه الربوبية والأسماء والصفات , وهذا النوع مداره على التصديق والتكذيب , ومن ثم تثبت لله عز وجل ما أثبته لنفسه فتكون مصدقا , أو لا تثبت ما أثبته لنفسه فتكون مكذبا ومحله القلب .
وأما القسم الثاني فهو توحيد القصد والطلب , ويسمى أيضا التوحيد الإرادي العملي القصدي , ومتعلقه توحيد الألوهية ومداره على فعل المكلف والفعل قد يكون قلبيا أو بالجوارح .
ثانيا : هل تقسيم التوحيد شرعي أم إجتهادي
وقد اختلف المعاصرون في هذه القسمة أهي إجتهادية , أم هي توقيفية بمعنى أنها قسمة شرعية جاء بها الشرع , وينبني على هذا الإختلاف إختلافهم في صحة أو عدم صحة زيادة أنواع أخرى من التوحيد , والحق أن هذه القسمة شرعية , فلا يجوز زيادة نوع آخر , فإن زيد مثلا نوع كتوحيد الحاكمية فمردود , وإن كان معناه صحيحا لقوله تعالى (( إن الحكم إلا لله )) ففيه نفي وإثبات , وهما حقيقة الإفراد فالله متفرد بالحاكمية .
ولكن هذا التوحيد إما أن يكون مندرجا في توحيد الربوبية من جهة وصف الله عز وجل بالحكم , فهو فعل من أفعاله وحينها يكون المكلف قد أفرد الله بهذا الفعل , وإما أنه يندرج في توحيد الألوهية من جهة كونه فعلا للمكلف , فلا يتحاكم لغير الله عز وجل فحينها قد أفرد الله بفعله هذا , فبالنظر للحكم فيندرج ضمن توحيد الربوبية , وبالنظر للتحكيم فيندرج ضمن توحيد الألوهية .
قلنا أن تقسيم التوحيد إلى هذه الأقسام شرعي وليس إجتهادي والدليل على ذالك :
- أولا : تتبع واستقراء نصوص الشرع , فهذا التقسيم محفوظ في النصوص كما حفظت شروط وأركان الصلاة في النصوص , وإن لم ينص عليها بهذه التسمية فكذالك التوحيد لم ينص على أفراده بهذا التسمية إلا أنه مبثوث في نصوص القرآن بهذا التقسيم , فكل آية كما قال ابن القيم متضمنة للتوحيد وداعية إليه , فكل آية إما خبر عن الله وأفعاله وأسمائه وصفاته , فهذا توحيد المعرفة والإثبات , وإما دعوة إلى عبادة الله وعدم الإشراك به وهو توحيد القصد والطلب , وإما أمر ونهي فهو حقوق التوحيد ومكملاته , وإما خبر عن جزاء الموحدين في الدارين أو خبر عن جزاء المشركين في الدارين فالقرآن كله يدور حول التوحيد .
- ثانيا : إشارات إلى هذه التقسيمات وردت عن السلف , فقد أخبر ابن عباس في قوله تعالى (( وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون )) أن من إيمانهم إذا قيل لهم من خلق السماء ومن خلق الأرض ومن خلق الجبال قالوا الله وهم مشركون , فظاهر الآية يؤيد التقسيم وقال أيضا ابن عباس في قوله تعالى (( ولئن سألتهم من خلقهم ليقولن الله )) وهم مع ذالك يشركون به ويعبدون غيره , فابن عباس أخبر أن متعلق إيمانهم فعل الرب ومتعلق الشرك الذي وقعوا فيه هو فعل العبد .
العلاقة بين أقسام التوحيد الثلاثة
تشكل الأنواع الثلاثة من أنواع التوحيد الركن الأول من أركان الإيمان , وهو الإيمان بالله عز وجل فتؤمن بربوبيته وألوهيته وأسمائه وصفاته , ولا يكتمل التوحيد إلا باجتماع هذه الثلاثة , فهي متلازمة وجودا وانتفاء كمالا ونقصا .
فإذا وقع خلل في توحيد الربوبية لزم منه وقوع الخلل في توحيد الألوهية وفي توحيد الأسماء والصفات , وهذا الخلل قد يؤدي للخروج من الإسلام , وقد يؤدي لحدوث نقص في الإسلام , فهذه الأنواع يكمل بعضها بعضا , وأي خلل في أحدها يؤدي للخلل في الآخر .
فتوحيد الربوبية مستلزم لتوحيد الألوهية , فمن أقر بأن الله هو الخالق وحده والرازق والضار والنافع , لزم من ذالك ألا يصرف شيئا من عباداته لغير الله , وإلا كان ذالك دليلا أن هناك خللا في توحيد الربوبية , فقد يعتقد أن الذي صرف إليه العبادة له قدرة على التأثير في بعض الأشياء مثلا , وتوحيد الألوهية متضمن لتوحيد الربوبية فإذا وجد توحيد الألوهية كاملا تضمن توحيد الألوهية كاملا , وكذالك توحيد الأسماء والصفات متضمن لهما .
أهم الفروق بين توحيد الربوبية وتوحيد الألوهية
أولا : الإختلاف في الإشتقاق فالربوبية مشتقة من الرب , والألوهية مشتقة من لفظ الإله , وقد قال تعالى (( قل اعوذ برب الناس ملك الناس إله الناس )) فجمع بين الإسمين في الآية , فدل هذا على تغاير المعنى فيهما , فمرد لفظ الربوبية إلى الرب ومعناه الخالق والمتصرف والمالك والمدبر , فمرد لفظ الرب إلى أفعاله سبحانه وتعالى , ومرد لفظ الألوهية إلى لفظ الإله , والإله من ألِه يأله إِلهةً إذا عبد عبادة فمرد اللفظ إلى العبودية , فإله على وزن فِعال بمعنى مفعول أي معبود .
ثانيا : متعلق الربوبية الأمور الكونية التي يتصرف الله فيها بأفعاله كيف يشاء , كالخلق والتدبير والرزق وغيرها ومدلوله علمي خبري يتعلق به التصدق والتكذيب في ثبوت ما أثبته الله لنفسه أو نفاه عن نفسه , ومتعلق الألوهية الأمر والنهي فمردها لأفعال العبد ومدلولها الإمتثال والقصد بأفعال العبد لمرضاة الرب وعبادته .
ثالثا : توحيد الربوبية أقر به المشركون في الجملة , فإقرارهم به لم يكن على وجه الكمال فلو كان على وجه الكمال ما حدث لهم خلل في توحيد الألوهية أما توحيد الألوهية فقد رفضوه فرعا وأصلا .
رابعا : توحيد الربوبية مستلزم لتوحيد الألوهية , فمن وصف الله أفعاله على جهة الكمال , فلا يمكن أن يتصور أن يصرف شيئا من العبادة لغيره ممن هو متصف بالعجز والنقص , فالمتصف بصفات الكمال هو المستحق للعبادة , فلا يمكن تصور وجود توحيد الربوبية على وجه الكمال مع وجود خلل في توحيد الألوهية , فمشركوا العرب لما كان فيهم خلل في توحيد الألوهية علم أن لهم خللا أيضا في توحيد الألوهية .
قولنا إن توحيد الربوبية يلزم منه توحيد الألوهية يعني أنه إن وجد الأول فلا بد أن ينتج منه الثاني , ولذالك فالقرآن يحاجج المشركين بتوحيد الربوبية على توحيد الألوهية , فيقول لهم ما دمتم أقررتم بأن الله هو الخالق والرازق والنافع والضار فأفردوه بالعبادة , فإنه لا يستحقها إلا هو .
وأما توحيد الألوهية فإنه يتضمن توحيد الربوبية , فلا يتصور عقلا أن تفرد من تعبده دون سواه ثم لا يكون متصفا بصفات الكمال , فتوحيد الربوبية جزء من توحيد الألوهية , فمعنى توحيد الألوهية إفراد الله بالعبادة وإفرادك له بالعبادة يدل أنه متصف بصفات الكمال في أفعاله , فتوحيد الربوبية دال وتوحيد الألوهية مدلول , وتوحيد الربوبية هو الأصل ولا يقع خلل في توحيد الألوهية إلا لمن لم يعط لتوحيد الربوبية حقه , فوجود خلل في توحيد الألوهية يدل ان ثمت خللا في توحيد الربوبية ولا شك , فإذا اتى بأصل الإقرار أن الله هو الخالق لكن ليس على وجه الكمال نتج منه بلا شك خلل في توحيد الألوهية .
خامسا : لا يدخل من أقر بتوحيد الربوبية إلى الإسلام ما لم يقر بتوحيد الألوهية , والثاني هو الذي كانت الخصومة فيه بين الأنبياء وأقوامهم , وكذالك كانت الخصومة بين العلماء ورثة الأنبياء وأقوامهم فالأنبياء أصل والعلماء فرع .