شرح قول الله
تعالى (( وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون
)) من كتاب التوحيد
أول آية إستدل بها المؤلف في الباب الأول من كتاب التوحيد قول الله تعالى (( وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون )) ,
وقد مر معنا
شرح لمعاني التوحيد وأقسامه والعلاقة بين هذه الأقسام , ونشرع الآن في شرح هذه
الآية .
|
شرح قوله تعالى (( وما خلقات الجن والإنس إلا ليعبدون )) من شرح كتاب التوحيد
|
قوله (( ما )) حرف نفي و (( إلا )) إيجاب أو إثبات وتستعمل للإستثناء , ففي
الآية نفي وإثبات وهو من أعلى درجات الحصر والقصر , ففي الآية قصر وحصر لحكمة خلق
الإنس والجن لشيئ واحد وهو العبادة .
فالقصر إثبات الحكم في المذكور ونفيه عما عداه , والمذكور في الآية هو الجن
والإنس , والحكم هو علة الخلق الذي هو عبادة الله عز وجل , والمعنى أن الله ما خلق
الجن والإنس لأي حال من الأحوال , ولا لأي شيئ من الأشياء إلا للعبادة .
وهذا إستثناء مفرغ من أعم الأحوال فيقدر فيه لفظ الحال أو الشئ , ويصبح تقدير
الآية (( وما خلقت
الجن والإنس لأي شئ من الأشياء أو لأي حال من الأحوال إلا لحال واحدة وحكمة واحدة
هي العبادة )) .
أما قوله (( ليعبدون )) فهذا تعليل لسبب خلقهم , ولكن هل التعليل هنا عقلي أو
تعليل شرعي ؟ , والفرق بينهما أن التعليل العقلي تُلازم فيه العلة المعلول , أي كلما
وُجدت العلة وُجد معلولها كحركة جسم ما لابد من مُحرك له , وأما التعليل الشرعي فلا
يلزم فيه مُلازمة العلة للمعلول , فقد توجد العلة ولكن لا يوجد المعلول .
فإذا جعلنا التعليل هنا تعليلا عقليا كانت علة الخلق التي هي العبادة مُلازمة
للجن والإنس , فأينما وجد الإنس والجن وُجدت العبادة , فكل إنسي وكل جني لا بد أن
يكون عابدا لله عز وجل , فحينها لا بد من التقدير كي يصح الكلام . فقد وجد في الواقع من الجن والإنس من لم يعبد الله عز وجل , فيكون التقدير ((
وما خلقت الجن والإنس ممن سبق في علم الله أنه سيعبده إلا ليعبده )) . فجعل بعض المفسرين هنا لفظ الجن والإنس عام
أريد به الخصوص , أي المراد بالجن والإنس في الآية هم المؤمنون فقط .
وأما إن قلنا إن التعليل هنا تعليل شرعي , وهي الحكمة من الخلق أو الإرادة
الشرعية أي أن الله خلقهم من أجل أن يعبدوه , ويستجيبوا لأمره إياهم بالعبادة ,
فيبقى النص على عمومه , وحمل العلة هنا على الشرعية أرجح لقوله تعالى (( وما أمروا
إلا ليعبدوا إله واحدا )) فقد أمرهم بما خلقوا له , وغيرها من الآيات الدالة على
إيجاب العبادة من الجن والإنس , ولأن الحمل على المعاني الشرعية أولى وأسبق .
وقد فسر المؤلف قوله (( ليعبدون )) أي يوحدون وهذا ليس تفسيرا بالمرادف بل
تفسيرا للشئ ببعض أفراده , فالتوحيد نوع من أنواع العبادات , وإنما فعل المؤلف
ذالك لأهمية التوحيد في قبول العبادة فهو شرط لصحتها , فالعبادة مبنية على التوحيد
وكل عبادة لا توحيد فيها فليست عبادة , وإن سماها صاحبها عبادة , وقد قال رسول
الله صلى الله عليه وسلم (( من عمل عملا أشرك فيه غيري تركته وشركه )) , فسمى هذا
العمل الذي اعتقده العامل عبادة شركا لأنه دخله الشرك , ولم يكن فيه توحيدا .
فالتوحيد عبادة وليست كل عبادة توحيدا , بل العبادة الصحيحة لا بد وأن تتضمن
التوحيد , فالتوحيد نوع من العبادة وهو جزء من أجزاء كل عبادة بل هو ركن فيها لا
تصح إلا به , فحينها قوله تعالى (( إلا ليعبدون )) أطلق الكل وأراد به الجزء وقد
مر أن التوحيد جزء في العبادة .
وأما العبادة ففي اللغة الذل والخضوع وكل إشتقاقات الكلمة تدور حول هذين
المعنيين , فأصل العبودية الذل والخضوع وفي الشرع تطلق ويراد بها المعنى المصدري
وهو فعل الفاعل , أي التَّعبد وهو غاية الحب وغاية الذل
.
فالعبادة تجمع كمال المحبة والخضوع والخوف , فإذا وجد الحب والذل والخضوع والخوف
على وجه الكمال إستلزم الطاعة , إذ ان هناك تلازما بين الظاهر والباطن وعلى قدر
نقصها يكون نقص الطاعة .
وتطلق العبادة في الشرع ويراد بها المعنى الإسمي اللقبي العلمي , فليست حينها
فعل الفاعل بل لها أفراد وصور كالصلاة والزكاة والصوم وغيرها من أنواع العبادات ,
وقد عرفها شيخ الإسلام ابن تيمية على هذا المعنى فقال (( إسم جامع لكل ما يحبه
الله ويرضاه من الأقوال والأعمال الظاهرة والباطنة )) سواء كان الفعل مستحبا أو
واجبا من عمل الجوارح أو اللسان أو من عمل القلوب , فالكل داخل في مسمى العبادة .
ما يستفاد من قوله تعالى (( وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون ))
- الحكمة من خلق الخلق وانهم لم يخلقوا إلا لعبادة
الله عز وجل فالآية معناها وما خلقت الجن والإنس لأي حكمة من الحكم إلا
ليعبدون فالعبادة واجبة على الجن والإنس
- أن الله عز وجل هو المستحق وحده للعبادة فالخالق هو
المستحق للعبادة دون ما سواه من المخلوقين فكل مخلوق إنسيا كان او جنيا ليس
اهلا لأن يعبد