أهم مسائل أحكام الأضحية في المذاهب الفقهية على ضوء الكتاب والسنة
الأضحية شعيرة من شعائر الدين وردت أحكام لها في الكتب والسنة , وقد اختلف العلماء في كثير من أحكامها تبعا لاختلافهم في فهم النصوص , نحاول من خلال هذا الموضوع التطرق لأهم مسائل الأضحية واختلاف العلماء فيها وطريقة استنباطاتهم لهذه الأحكام .
الأضحية إسم لما يُذكى من الأنعام وهي الغنم والبقر والإبل تقربا إلى الله عز وجل في إيام النحر بشرائط مخصوصة , والتذكية إزهاق روح الحيوان بالذبح أو النحر أو العقر . وقد ذكر الإمام عبد الرحمن بن محمد البغدادي المالكي أن سبب تسميتها أنها تذبح وقت الضحى .
مشروعية الأضحية وحكمها
نعني بالمشروعية أن نصوص الشرع قد جاءت بجعلها قربة من القربات , وقد ثبتت مشروعيتها بالكتاب والسنة والإجماع , أما الإجماع فقد ذكره غير واحد من العلماء كالنووي وغيره أن الأمة قد اجمعت على أن الأضحية مشروعة .
وأما ما جاء في تشريعها من القرآن فقول الله تعالى (( وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنسَكًا لِّيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَىٰ مَا رَزَقَهُم مِّن بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ )) والمنسك هو اسم المكان الذي يحدث فيه النسك والنسك هو الذبح , ويضيف بعض العلماء للأدلة الدالة على مشروعيتها قوله تعالى أيضا (( فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ)) وإن كان غير صريح في أن المراد بالنحر هنا هو نحر يوم الأضحى كما سيأتي .
وأما من السنة فالأدلة كثيرة فقد ثبتت مشروعيتها بالسنة الفعلية والسنة القولية والسنة التقريرية , نقتصر على واحدة منها فحسب ففي صحيح البخاري عن أنس قال (( ضحى النبي -صلى الله عليه وسلم- بكبشين أملحين، فرأيته واضعا قدمه على صفاحهما يسمي ويكبر، فذبحهما بيده )) , ومعنى أملحين قيل أبيضين وقيل أبيضين يشوبهما سواد , والصحاف جمع صفحة وهي جانب العنق .
وأما المسألة الثانية فحكم الأضحية والفرق بين بيان المشروعية وبيان الحكم أن بيان المشروعية كلام عن ورودها في الشرع , وأما بين الحكم فهو بيان موقف الشرع منها من حيث تحديد الوجوب أو الإستحباب أو الإباحة .
إختلف العلماء في حكمها فالجمهور منهم قالوا أن حكمها سنة وهو قول المالكية والشافعية والحنابلة وهو اختيار الإمام البخاري في صحيحة فقد بوب بقوله (( باب سنة الأضحية )) , وذهب الحنفية إلى وجوبها في حق الموسر المقيم وفي إحدى الراويتين عن الإمام أحمد أنها واجبة وهو قول في مذهب مالك وهو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية .
مناقشة أدلة الجمهور وأدلة الحنفية وترجيح القول في حكم الأضحية
يعود سبب إختلاف العلماء في حكم الأضحية لسببين الأول : هل فعل النبي صلى الله عليه وسلم في الأضحية يحمل على الوجوب أو الندب ذالك أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يترك الأضحية أبدا لا في سفر ولا في حضر .
والسبب الثاني من أسباب الإختلاف في المسألة إختلافهم في مفهوم الآيات والأحاديث الواردة في المسألة , وسنأخذ أدلة القائلين بالوجوب ثم أدلة القائلين بالإستحباب .
إستدل من قال بالوجوب بقوله تعالى (( فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ )) ووجه الإستدلال بالآية أن الله عز وجل قرن الصلاة بالنحر ولا يقرنان إلا يوم الأضحى وعليه فإن المراد بالصلاة في الآية هي صلاة العيد والمراد بالنحر في الآية هو نحر الأضحية , وفي الآية صيغة أمر والأصل فيه الوجوب فقد قال (( وانحر )) .
وأما من السنة فسنذكر العمدة عندهم من الآحاديث وهي الأكثر وضوحا ودلالة على قولهم بالوجوب , فمن ذالك ما أخرجه الطبري في تفسيره عن أنس بن مالك قال « كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَنْحَرُ قَبْلَ أَنْ يُصَلِّيَ، فَأُمِرَ أَنْ يُصَلِّيَ ثُمَّ يَنْحَرَ» وأجيب عنه بأن الحديث يدل على وقت الأضحية لا على حكمها .
ومما استدلوا به حديث مخنف بن سليم أنه قال (( كُنَّا وُقُوفًا مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِعَرَفَاتٍ فَسَمِعْتُهُ يَقُولُ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ عَلَى كُلِّ أَهْلِ بَيْتٍ فِي كُلِّ عَامٍ أُضْحِيَّةٌ وَعَتِيرَةٌ )) اخرجه ابو داود والترمذي وحسنة الشيخ الألباني . والشاهد على القول بالوجوب من هذا الحديث قوله (( على )) فالأصل فيها للوجوب . وقد أجيب عن الحديث أنه ضعيف كما قال الخطابي وغيره وعلى التسليم بصحته فإن لفظ (( على )) فيه غير محمول على الوجوب بل على الإستحباب المؤكد بدليل ما نذكره من الأدلة الدالة على السنية , ومما يدل أن (( على )) في الحديث دالة على الإستحباب أنه لا أحد قال بوجوب العتيرة .
ومما استدلوا به أيضا ما رواه الإمام أحمد وحسنه الشيخ أحمد شاكر وصححه الشيخ الألباني عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (( مَنْ كَانَ لَهُ سَعَةٌ، وَلَمْ يُضَحِّ، فَلَا يَقْرَبَنَّ مُصَلَّانَا )) , وأجيب أن الحديث مختلف في وقفه ورفعه وكثير من علماء الحديث قالوا الصحيح أنه موقوف من كلام أبي هريرة رضي الله عنه , وعلى التسليم برفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم , فليس فيه دلالة على الوجوب بل فيه تأكيد لأمر الأضحية وزجر عمن يترك هذه الشعيرة وهو قادر عليها .
ومما استدلوا به أيضا حديث جندب بن عبد الله المتفق عليه أنه قال (( صَلَّى النبيُّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ يَومَ النَّحْرِ، ثُمَّ خَطَبَ، ثُمَّ ذَبَحَ، فَقالَ : مَن ذَبَحَ قَبْلَ أنْ يُصَلِّيَ، فَلْيَذْبَحْ أُخْرَى مَكَانَهَا، ومَن لَمْ يَذْبَحْ، فَلْيَذْبَحْ باسْمِ اللَّهِ )) , ووجه الدلالة أن النبي أمر من ذبح قبل الصلاة بإعادة الذبح . وهذا أقوى الأدلة الدالة على الوجوب لولا ما ورد من الأدلة التي تصلح أن تكون قرينة دالة لصرف الأمر في هذا الحديث من الوجوب إلى الندب .
وأما أدلة الجمهور القائلين بأن الأضحية ليست واجبة فهي من السنة ومن أفعال الصحابة . أما من السنة فنذكر أقواها فمنها حديث أم سلمة-رضي الله عنها- الذي أخرجه الإمام مسلم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : (( إذا دخلت العشر، وأراد أحدكم أن يضحي، فلا يمس من شعره وبشره شيئاً )) ووجه الإستدلال أن النبي صلى الله عليه وصلم فوض التضحية إلى إرادة العبد فقال (( وأراد )) والوجوب ينافي التفويض , ولو كانت الأضحية واجبة لقال (( فلا يمس من شعره حتى يضحي )) , وأجيب عن هذا أن التفويض لا يمنع القول بالوجوب إذا قام دليل مستقل على وجوب ذالك الفعل , وله نظير في الشرع فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في المواقيت (( هن لهن ولمن أتي عليهن من غير أهلهن ممن يريد الحج والعمرة )) مع أن الحج قد يكون واجبا .
وأما الدليل الثاني فهو حديث جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم لما ضحى بكبش قال (( اللهم عني وعمَّن لم يضح من أمتي )) ووجه الدلالة أن النبي قد ضحى عمن لم يضحي من أمته , و أجيب أن المقصود بمن لم يضحي العاجز وليس القادر , فهذا الحديث وحده لا ينهض للقول بعدم الوجوب بل لا بد من النظر في النصوص الأخرى ليتبين مراد النبي بمن لم يضحي .
وأما أقوى الأدلة عند الجمهور والتي تعتبر مرجحة للقول بعدم الوجوب فهو ما ثبت من فعل لبعض الصحابة رضي الله عنهم من ترك الأضحية خشية أن يعتقد البعض أنها واجبة ولم يعلم لهم مخالف , فمن ذالك فعل أبي بكر وعمر رضي الله عنهما عن حُذيفةَ بنِ أُسَيدٍ، قال (( لقد رأيتُ أبا بكرٍ وعُمَرَ رَضِيَ اللهُ عنهما وما يُضَحِّيانِ عن أهلِهما؛ خَشْيَةَ أن يُسْتَنَّ بهما، فلمَّا جِئْتُ بلَدَكم هذا حَمَلَني أهلي على الجَفَاءِ بعدَ ما علِمْتُ السُّنَّة )) قال الهيثمي رجاله رجال الصحيح وصحح إسناده الألباني في إرواء الغليل .
وقد ثبت أيضا عن غيرهما فقد أخرج البيهقي عن أبي مسعود الأنصاري : (( إني لأدعُ الأضحى وإني لموسر ، مخافةَ أن يرى جيراني أنه حتمٌ عليَّ)) صححه الألباني في الإرواء , وممن ثبت عنه أيضا ترك الأضحية , وقد أخرج البيهقي أيضا بإسناده في معرفة السنن والآثار قال عِكْرَمةُ : (( كان ابنُ عبَّاسٍ يبعَثُني يومَ الأضحى بدرهمينِ أشتري له لَحْمًا، ويقول: مَن لَقِيتَ فقل: هذه أضْحِيَّةُ ابنِ عبَّاسٍ)) .
حكم الإشتراك في الأضحية وحكم الإستدانة لشرائها .
تجزئ الشاة عن المضحي وأهل بيته إتفاقا , وأما الإشتراك فيها بالثمن مع غير أهل البيت فغير جائز , وقد نقل الإمام النووي وابن رشد وابن قدامة الإجماع على عدم الإجزاء , وأما الإشتراك في الأضحية في غير الغنم فمحل خلاف بين العلماء .
فقد ذهب الإمام مالك أن ذالك لا يجزئ وذهب الجمهور من فقهاء الحنفية والشافعية والحنابلة إلى الجواز , وقيد الحنفية الجواز بان يكون كل المشتركين قصدهم القربة فلا يجوز الإشتراك إن كان قصد بعضهم عدم القربة , أما الحنابلة والشافعية فلم يقيدوه بقصد جميعهم القربة , فلو قصد بعضهم القربة وبعضهم قصد اللحم جاز الإشتراك ولكل منهم ما نوى .
وقد اعتمد الجمهور على القول بالجواز على حَدِيثِ جَابِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَال : (( نَحَرْنَا مَعَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَامَ الْحُدَيْبِيَةِ الْبَدَنَةَ عَنْ سَبْعَةٍ، وَالْبَقَرَةَ عَنْ سَبْعَةٍ )) أخرجه الإمام مسلم , وقد قاسوا الأضحية على الهدي فأجازوا الإشتراك .
ومن جملة الأدلة التي اعتمدوا عليها حديثِ ابنِ عبَّاسٍ رضي الله عنهما قال : (( كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللهِ صلَّى الله عليه وسلَّم فِي سَفَرٍ فَحَضَرَ الأَضْحَى فَاشْتَرَكْنَا فِي البَقَرَةِ سَبْعَةً، وَفِي البَعِيرِ عَشَرَةً )) أخرجه الترمذي والنسائي وابن ماجة وصححه ابن القطان وقال ابن الملقن أن جميع رجاله ثقات وصححه الشيخ الألباني .
والمتأمل في المسألة يدرك أن مذهب الجمهور في جواز الإشتراك هو الراجح فالنص فيه صحيح صريح أعني حديث ابن عباس , وأما حديث جابر فقد أوله المالكية بكون الإشتراك كان في الهدي ولا يصح القياس , وقالوا أيضا إنما الذي أهدى هو النبي صلى الله عليه وسلم ثم اشركهم في الأجرى .
وأما في العدد المجزئ فقد اتفق الجمهور الحنفية والشافعية والحنابلة أنه سبعة نفر في الإبل والبقر , ومن باب أولى إذا كان العدد أقل من سبع فيجوز الإشتراك فيه , وأما إن جاوز العدد سبعا فقد اختلفوا في جوازه فقيل جائز وقيل لا يجوز وهو مذهب الجمهور , وذهب بعض الفقهاء إلى جواز الإشتراك في عشر من الإبل لا البقر لحديث ابن عباس المتقدم , ولحديث رافع بنِ خَدِيجٍ رضي الله عنه المتفق عليه وفيه (( أنهُ صلَّى الله عليه وسلَّم عَدَلَ عَشَرَةً مِنَ الغَنَمِ بِبَعِيرٍ )) .
أما الإستدانة لشرائها فلا يجب على كلا القولين من أوجب الأضحية أو من لم يوجبها , لأن من شرط وجوبها عند من اوجبها الإستطاعة وهذا غير مستطيع , أما هل يستحب له الإستدانة فيستحب إن كان له القدرة على تسديد الدين وإلا فلا يستحب .
شروط صحة الأضحية عند المالكية والحنابلة والشافعية والحنفية
الشرط الأول أن تكون من جنس الأنعام وفيه بحث أيها أفضل الغنم أم البقر أم الإبل
فالشرط الأول من شروطها الجنس وهي أن تكون بهيمة الأنعام ذكرا كانت أم أنثى , وهي الإبل والبقر والغنم لقوله تعالى (( وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنسَكًا لِّيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَىٰ مَا رَزَقَهُم مِّن بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ )) , وقد فصل القرآن الكريم وبين ماهية الأنعام في سورة الأنعام فقال (( ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ ۖ مِّنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ )) , ثم قال (( وَمِنَ الْإِبِلِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْبَقَرِ اثْنَيْنِ )) .
وأما عن أفضلها فالسمينة من كل جنس هي الأفضل اتفاقا حتى أنهم قد قالوا التضحية بشاة سمينة أفضل من شاتين دونها , وقد ذكر بعض الفقهاء استحباب تسمين الأضاحي وخالف بعض المالكية فقالوا يكره والحديث حجة عليهم فقد ثبت في البخاري عَنْ أَبِي أُمَامَةَ الصَّحَابِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ ( كُنَّا نُسَمِّنُ الْأُضْحِيَّةَ وَكَانَ الْمُسْلِمُونَ يُسَمِّنُونَ ) .
أما عن الأفضل بين هذه الأجناس فاختار المالكية الغنم ثم البقر ثم الإبل على المشهور ويقابل المشهور تقديم الإبل على البقر , وذهب الشافعية والحنفية والحنابلة إلى أن الأفضل الإبل ثم البقر ثم الغنم . وقد استدل المالكية بجملة من الأدلة فقوله تعالى (( وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ )) والأضحية إحياء لسنة أبينا إبراهيم عليه السلام , وقد ثبت في السنة الفعلية أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يضحي بالكباش , وأما من السنة القولية فما رواه أبو داود عن عبادة بن الصامت -رضي الله عنه- قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (خير الأضحية الكبش الأقرن) , والحديث مختلف فيه فقد صحح الإمام العراقي إسناده في طرح التثريب والشيخ الإثيوبي في شرح سنن النسائي وضعفه الشيخ الألباني .
وأما الشافعية والحنفية والحنابلة فعمدتهم حديث ( من اغتسل يوم الجمعة ثم راح فكأنما قرب بدنة، ومن راح في الساعة الثانية فكأنما قرب بقرة، ومن راح في الساعة الثالثة فكأنما قرب كبشاً أقرن، ومن راح في الساعة الرابعة فكأنما قرب دجاجة، ومن راح في الساعة الخامسة فكأنما قرب بيضة ) رواه البخاري ومسلم , ووجه الإستدلال من الحديث أن التقرب إلى الله عز وجل بما كان أكثر نفعا كان أكثر أجرا , والأضحية قربة يتقرب بها العبد لله عز وجل فمن قرب بدنة في أضحيته أكثر اجرا ممن قرب بقرة أو شاة , ومن قرب بقرة أفضل ممن قرب شاة .
والذي يمكن قوله أن الحديث الذي استدل به الجمهور عام في كل قربة , وأما أدلة المالكية فخاصة في الأضحية فيحمل الخاص على العام , فيكون بذالك التقرب بالإبل أفضل ثم البقر ثم الغنم في غير الأضحية , أما في الأضحية فالأفضل الغنم وأفضل الغنم الكباش .
الشرط الثاني السِّنُّ , الجَذَعُ من الضأن والثَّنِيَّة من الماعز والبقر والإبل .
نقل القاضي عياض في شرح مسلم والقاضي أبي بكر ابن العربي في المسالك أنه لا خلاف في أنه لا يجزئ الجذع إلا من الضأن خاصة , ونقل الإجماع غلط فعند الشافعية وجه أن الجذع من الماعز يجزئ ونقل هذا القول عن عطاء والأوزاعي . ونقل أيضا عن ابن عمر والزهري أن الجذع من الضأن لا يجزئ .
وعليه فالأضحية غير جائزة دون السن الذي تجذع فيه اتفاقا سواء كانت غنما أم إبلا أم بقرا , أما إن أصبحت جذعة , فالجمهور من أهل العلم يجوزون التضحية بالجذع من الضأن والقول بالمنع قول ضعيف وشاذ , كما أن الجمهور من أهل العلم لا يجوزون التضحية بالجذع من الماعز والقول بالجواز قول ضعيف وشاذ , أما الأضحية من البقر والإبل فالكل متفقون أنها لا تجوز بالجذع بل لا بد من الثنية .
والعمدة في الأحاديث التي اعتمد عليها العلماء في تحديد السن هي :
أولا : أحاديث تشترط ان تكون الأضحية مُسِنَّة منها حديث جَابِرٍ قَالَ : (( قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: لَا تَذْبَحُوا إلَّا مُسِنَّةً إلَّا أَنْ يَعْسُرَ عَلَيْكُمْ فَتَذْبَحُوا جَذَعَةً مِنْ الضَّأْنِ )) رواه الجماعة إلا البخاري والترمذي , فلفظ مسنة نكرة في سياق النهي فتفيد العموم , والمسنة هي الثَّنِيَّة من كل شيئ الغنم والبقر والإبل , وعليه قلا تجوز الأضحية بالجذع من هذه الأنواع , إلا أن في الحديث تخصيصا لعوم النهي بقوله (( إلا أن يعسر عليكم فتذبحوا جذعة من الضأن )) , فمن ضح بمسنة أو بجذعة من الضان عند تعسر السنة فأضحيته جائزة إجماعا , وقد جاء تخصيص الجذع من الضأن من هذا العموم في آحاديث أخرى وهي النوع الثاني الذي نذكره .
ثانيا : أحاديث تبيح التضحية بالجذع من الضأن منها حديث أبو هريرة قَالَ : سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: « نِعْمَ - أَوْ نِعْمَتْ - الْأُضْحِيَّةُ الْجَذَعُ مِنْ الضَّأْنِ » أخرجه احمد والترمذي وأيضا حديث أُمِّ بِلَالٍ بِنْتِ هِلَالٍ عَنْ أَبِيهَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ : « يَجُوزُ الْجَذَعُ مِنْ الضَّأْنِ أُضْحِيَّةً » رَوَاهُ أَحْمَدُ وَابْنُ مَاجَهْ , وفي الباب آحاديث اخرى يقوي بعضها بعضا , ومما يعضدها عمل عامة أهل العلم بها , فعامة أهل العلم يجوزون الأضحية بالجذع من الضأن وإن لم يعسر .
ثالثا : أحاديث تفيد الرخضة لبعض الصحابة في التضحية بالجذع من الماعز منها حديث الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ قَالَ « ضَحَّى خَالٌ لِي يُقَالُ لَهُ أَبُو بُرْدَةَ قَبْلَ الصَّلَاةِ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: شَاتُك شَاةُ لَحْمٍ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ إنَّ عِنْدِي دَاجِنًا جَذَعَةً مِنْ الْمَعْزِ، قَالَ: اذْبَحْهَا وَلَا تَصْلُحُ لِغَيْرِك » . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ , وفي الحديث دلالة واضحة على منع التضحية بالجذع من الماعز , وأيضا ممن ثبتت له الرخصة في التضحية بالجذع من الماعز عقبة بن عامر فعند أَبي دَاوُد « أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَعْطَاهُ غَنَمًا يَقْسِمُهَا عَلَى صَحَابَتِهِ ضَحَايَا، فَبَقِيَ عَتُودٌ فَذَكَرَهُ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: ضَحِّ بِهِ أَنْتَ » والعتود ما قوي من ولد الماعز بسبب الرعي وأتى عليه حول .
مسألة : معنى الجذع والثنية من الغنم والإبل والبقر .
بعد أن تبين أن سن الأضحية إن كان دون سن الجذع فلا تجوز اتفاقا , وأما الجذع من الضأن فجائز ومن غيره فلا يجوز , فالشرط في غير الضأن أن تكون مسنة ( الثنية ) , فبات من الضروري معرفة معنى الجذع والتثنية ( الثنية ) .
الجذع من الأنعام مرحلة عمرية من مراحل عمرها وبعد مرحلة الجذع تأتي مرحلة الثنية ( التثنية ) تماما كما هو معروف في بني آدم , فعمره مراحل فمن هذه المراحل مثلا مرحلة المراهقة ثم مرحلة الشباب , والمرجع في تحديد سن الجذع والثنية إلى أهل اللغة .
في معجم لسان العرب (( الْجَذْعُ : الصَّغِيرُ السِّنِّ. وَالْجَذَعُ : اسْمٌ لَهُ فِي زَمَنٍ لَيْسَ بِسِنٍّ تَنْبُتُ، وَلَا تَسْقُطُ ... قَاْلَ اللَّيْثُ : الْجَذَعُ مِنَ الدَّوَابِّ وَالْأَنْعَامِ قَبْلَ أَنْ يُثْنِيَ بِسَنَةٍ، وَهُوَ أَوَّلُ مَا يُسْتَطَاعُ رُكُوبُهُ وَالِانْتِفَاعُ بِهِ ... وَقِيلَ لِابْنَةِ الْخُسِّ: هَلْ يُلْقِحُ الْجَذَعُ ؟ قَالَتْ: لَا، وَلَا يَدَعْ )) , ونقل الشنقيطي في تفسيره عن الأزهري قوله (( الْبَقَرَةُ وَالشَّاةُ يَقَعُ عَلَيْهِمَا اسْمُ الْمُسِنِّ، إِذَا أَثْنَيَا )) .
يتحصل أن الجذع مرحلة عمرية تسبق مرحلة الثنية بسنة واحدة , وأما المرحلة التي تسمى فيها البهيمة بالثنية فهي المرحلة التي تلقي فيها البهيمة بثنيتها وهي قواطع الأسنان الأمامية , ففي هذه المرحلة يتم فيها تبديل الزوج من الأسنان الأمامية إلى أسنان دائمة وكبيرة تسمى الثنايا .
وسبب التفريق بين جواز الجذع من الضأن وعدم جوازه من غيره أن الجذع من الضأن يلقح بينما الجذع من غيره لا يلقح إلا إذا أصبح ثنيا .
فبعد تحديد معنى الجذع ومعنى الثنية في اللغة حاول العلماء أن يضعوا ضابطا عمريا لهما فاختلفوا اختلافا بينا .
فعند المالكية في المشهور من مذهبهم أن جذع الضأن ما أكمل سنة وقيل ابن ستة أشهر وقيل ابن ثمانية , وأما ثني الماعز فما دخل في السنة الثانية دخولا بينا أي جاوز السنة بشهر أو شهرين , وأما الثني من البقر عندهم فابن ثلاث سنين , والثني من الإبل ابن خمس سنين , ولا فرق بين الذكر والأنثى عندهم في الإبل والبقر .
وأما الحنفية والحنابلة فالجذع من الضأن عندهم ابن ستة أشهر ومن الماعز ابن سنة ومن ابن سنتين ومن الإبل ابن خمس سنين , ومذهب الشافعية مثل مذهب الحنفية والحنابلة إلا أن الأصح عندهم أن الثني من الماعز ما استكمل سنتين , وفي كل مذهب من المذاهب أقوال أخرى إلا أننا ذكرنا الأشهر من بين هذه الأقوال في كل مذهب .
الشرط الثالث : السلامة من العيوب شرح حديث البراء بن عازب
الأصل في المسألة هو حديث البراء بن عازب الذي عد فيه أربعة عيوب ذكرها النبي صلى الله عليه وسلم , فعن البراءَ بنَ عازبٍ قالَ قامَ فينا رسولُ اللَّهِ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ وأصابعي أقصرُ من أصابعِه وأناملي أقصرُ من أناملِه فقالَ : (( أربعٌ لا تجوزُ في الأضاحيِّ فقالَ العوراءُ بيِّنٌ عورُها والمريضةُ بيِّنٌ مرضُها والعرجاءُ بيِّنٌ ظلعُها والكسيرُ الَّتي لا تَنقى )) قالَ - أي الراوي عبيد - قلتُ فإنِّي أكرَه أن يَكونَ في السِّنِّ نقصٌ قالَ - أي البراء - ما كرِهتَ فدعهُ ولا تحرِّمهُ علَى أحدٍ .
قوله (( أربع لا تجوز في الأضاحي )) وفي لفظ (( لا تجزئ )) , قوله (( بين عورها )) وفي لفظ (( البين عورها )) والعوراء هي التي انخسفت عينها وذهبت , وأقل العور كما قال الشافعي البياض الذي يمنع من الرؤية فيمنع كمال الرعي , وقوله (( المريضة بين عورها )) وفي لفظ (( المريضة البين عورها )) أي التي ظهر عليها وضابطه ما كان سببا في هزالها أوفساد لحمها ونقصه .
قوله (( والعرجاء بين ظلعها )) وفي لفظ البين ظلعها والظالع العاثر في مشيه بسبب كسر أ خلل خلقي أو ضعف بدني وفي لفظ النسائي (( البين عرجها )) , ومعنى البين عرجها أي ان عرجها فاحش وواضح بحيث تتأخر عن القطيع أثناء الرعي فإن لم يمنعها من اللحاق بهم فهو عرج يسير لا يمنع .
قوله (( والكسير التي لا تنقي )) وهي الهزيلة التي لا مخ في عظامها , ويريد بذالك التي لا شيئ فيها من الشحم فالنقي هو الشحم .
العيوب المذكورة في حديث البراء بن عازب مجمع على عدم إجزاء الأضحية إن وجدت فيها , وقد ذكر الإجماع غير واحد من اهل العلم , قال ابن عبد البر (( قال ابن عبر البر في الإستذكار (( أَمَّا الْعُيُوبُ الْأَرْبَعَةُ الْمَذْكُورَةُ فِي هَذَا الْحَدِيثِ فَمُجْتَمَعٌ عَلَيْهَا لَا أَعْلَمُ خِلَافًا بَيْنَ الْعُلَمَاءِ فِيهَا )) , وكذالك أجمعوا أن ما كان خفيفا من العيوب فلا يؤثر في الأضحية .
وقد التزم الظاهرية على عادتهم بظاهر الحديث فقصروا المنع على هذه العيوب فحسب , أما الجمهور فقد ألحقوا كل عيب هو أشد من العيوب الأربع بها وقالوا لا تجزئ .
وأما إن كانت العيوب مساوية للعيوب الأربع المذكورة فمذهب مالك إلحاقها بالمذكور في عدم الإجزاء , والقول الثاني أنها لا تمنع ولكن يستحب إجتنابها وهو قول ابن القصار , وقد قسم القرافي العيوب في كتابه الذخيرة لأقسام ثلاث , فالقسم الأول من العيوب يخل باللحم أي ينقصه كقطع الأذن والقسم الثاني يفسد اللحم كالمرض والجرب , والقسم الثاني عيوب تخل بالجمال والخلقة كشق الأذن وقطع الذنب الذي لا لحم فيه .
تنبيه : من أسباب اختلاف العلماء في إجزاء بعض العيوب وعدم إجزائها إضافة لما ذكرنا من جواز القياس على حديث البراء إختلافهم في تصحيح أو تضعيف بعض النصوص الواردة في النهي عن بعض العيوب , وكذالك من أسباب إختلافهم هو عد بعض العيوب عيوبا مخلة أم لا .
الشرط الرابع : وقت الذبح بعد الصلاة وهل يجوز الذبح قبل ذبح الإمام وهل يجوز الذبح ليلا
اتفق العلماء أن ذبح الأضحية قبل الصلاة غير مجز , لحديث جندب بن سفيان المتفق عليه (( مَنْ كَانَ ذَبَحَ قَبْلَ أَنْ يُصَلِّيَ فَلْيَذْبَحْ مَكَانَهَا أُخْرَى وَمَنْ لَمْ يَكُنْ ذَبَحَ حَتَّى صَلَّيْنَا فَلْيَذْبَحْ بِاسْمِ اللَّهِ )) , غير أن الشافعي قال المعتبر وقت الصلاة , وذهب المالكية أن وقت الذبح يبدأ بذبح الإمام واختلفوا هل الإمام هو إمام المسلمين ام إمام الصلاة والمشهور في المذهب أن الإمام هو إمام الصلاة .
فالمذهب عند الشافعية أن وقت الأضحية يكون بعد طلوع الشمس ومُضي قدر من الوقت يتسع لأداء الصلاة وخطبتين خفيفتين , وهذا سواء صلى الإمام أم لا وسواء صلى هو أم لم يصلي . وقد تأولوا أحاديث تعيين الوقت بالصلاة كما في حديث جندب بأن المراد منها التقدير بالزمان لا بالفعل , وهذا أشبه بمواقيت الصلاة فالشارع غايته من هذا تحديد وقت دخول الذبح وليس غايته ربط وقت الأضحية بالصلاة .
وعمدة المالكية في اشتراط ذبح الإمام لدخول وقت الذبح حديث مسلم عن جابر رضي الله عنه قال (( صَلَّى بنَا النبيُّ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ يَومَ النَّحْرِ بالمَدِينَةِ، فَتَقَدَّمَ رِجَالٌ فَنَحَرُوا، وَظَنُّوا أنَّ النبيَّ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ قدْ نَحَرَ، فأمَرَ النبيُّ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ مَن كانَ نَحَرَ قَبْلَهُ أَنْ يُعِيدَ بنَحْرٍ آخَرَ، وَلَا يَنْحَرُوا حتَّى يَنْحَرَ النبيُّ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ )) . فالمالكية قالوا يجمع حديث جابر الذي اشترط نحر الإمام مع حديث جندب وغيره ممن يشترط انقضاء الصلاة فحسب على أن الأشحية يبدأ وقتها بمجموع الأمرين انقضاء الصلاة ونحر الإمام , فليس هناك بين انقضاء الصلاة ونحر النبي صلى الله عليه وسلم إلا وقت يسير وهو كان ينحر في المصلى , وخاصة أن التصريح في الحديث واضح فقد قال (( من كان نحر قبله )) .
أما الجمهور فقد تأولوا حديث جابر فقالوا المراد به الزجر ومزيد من التحرز في وقت الذبح الذي هو بعد انتهاء الصلاة , لذا فقد جاءت اغلب الأحاديث مقيدة بالفراغ من الصلاة وليس بذبح الإمام , فإنه لا يتصور منهم ان لا يصلوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وانتهاء النبي من الذبح يكون بعد انتهائهم من الصلاة .
مسألة 1 : أيام الذبح عند المالكية والحنفية والحنابلة يوم العيد ويومان بعده وذهب الشافعي أن أيام الذبح يوم العيد وثلاثة أيام بعده .
مسألة 2 : محل الذبح عند المالكية نهارا ولا يجزئ ذبح الأضحية عندهم ليلا .
المراجع :
1 . أحكام الأضحية والذكاة الشيخ محمد بن صالح العثيمين
2 . أحكام القرآن الإمام أبي بكر ابن العربي
3 . المفصل في أحكام الأضحية الشيخ حسام الدين بن موسى محمد بن عفانة
4 . نيل الأوطار شرح منتقى الأخبار الإمام الشوكاني
5 . جامع البيان عن تأويل أي القرآن ( تفسير الطبري ) الإمام ابن جرير الطبري
6 . بداية المجتهد ونهاية المقتصد الإمام ابن رشد القرطبي
7 . طرح التثريب في شرح التقريب الإمام زين الدين العراقي
8 . تحفة الأحوذي شرح جامع الترمذي الشيخ أبو العلا محمد عبد الرحمن المباركفوري
9 . المجموع شرح المهذب الإمام أبو زكريا محي الدين النووي
10 . المبسوط الإمام محمد بن أحمد السرخسي
11 . الإختيار لتعليل المختار الإمام مجد الدين أبو الفضل الحنفي
12 . المعونة على مذهب عالم المدينة القاضي عبد الوهاب البغدادي
13 . مواهب الجليل شرح مختصر خليل شمي الدين ابو عبد الله الحطاب
14 . الجامع لأحكام القرآن تفسير القرطبي الإمام القرطبي
15 طرح التثريب في شرح التقريب الإمام زين الدين العراقي
16 . المسالك شرح موطأ الإمام ابن مالك الإمام أبي بكر بن العربي
17 . أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن الشيخ محمد الأمين الشنقيطي
18 . كشاف القناع عن متن الإقناع الإمام منصور بن يونس البهوتي الحنبلي
19 . معجم لسان العرب ابن منظور
20 . الإستذكار أبو عمر ابن عبد البر
21 . شرح سنن ابي داود شهاب الدين ابو العبائ ابن رسلان الشافعي
22 . إكمال المعلم شرح صحيح مسلم القاضي عياض