شرح الحديث السادس حديث النعمان بن بشير في الحلال والحرام والشبهات من الأربعين النووية
عَنِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ : « إِنَّ الْحَلَالَ بَيِّنٌ وَإِنَّ الْحَرَامَ بَيِّنٌ ، وَبَيْنَهُمَا أُمُورٌ مُشْتَبِهَاتٌ ، لَا يَعْلَمُهُنَّ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ ، فَمَنِ اتَّقَى الشُّبُهَاتِ اسْتَبْرَأَ لِدِينِهِ وَعِرْضِهِ ، وَمَنْ وَقَعَ فِي الشُّبُهَاتِ وَقَعَ فِي الْحَرَامِ ، كَالرَّاعِي يَرْعَى حَوْلَ الْحِمَى يُوشِكُ أَنْ يَرْتَعَ فِيهِ ، أَلَا وَإِنَّ لِكُلِّ مَلِكٍ حِمَى ، أَلَا وَإِنَّ حِمَى اللَّهِ مَحَارِمُهُ ، أَلَا وَإِنَّ فِي الْجَسَدِ مُضْغَةً إِذَا صَلَحَتْ صَلَحَ الْجَسَدُ كُلُّهُ ، وَإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ الْجَسَدُ كُلُّهُ ، أَلَا وَهِيَ الْقَلْبُ » رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ .
شرح حديث الحلال بين والحرام بين وبينهما أمور مشتبهات |
قوله (( إِنَّ الْحَلَالَ بَيِّنٌ )) أي الحلال المحض واضح لا اشتبه فيه , وذالك كأكل وشرب الطيبات ولباس ما يحتاجه الإنسان وكالنكاح وغيرها مما هو معلوم عند الناس .
قوله (( وَإِنَّ الْحَرَامَ بَيِّنٌ )) أي وأيضا الحرام المحض لا اشتباه فيه لوضوحه , وذالك كالزنا والسرقة والربا وأكل الخبائث والميتة والدم ولحم الخنزير وغيرها مما هو معلوم عند كثير من الناس .
قوله (( وَبَيْنَهُمَا أُمُورٌ مُشْتَبِهَاتٌ ، لَا يَعْلَمُهُنَّ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ )) أي وبين الأمرين الحلال المحض والحرام المحض أمور تشتبه على كثير من الناس هل هي من الحلال أم من الحرام , لكن الراسخين في العلم فلا تشتبه عليهم فهم يعلمون هل هي من الحلال أم من الحرام , وذالك كبعض ما اختلف العلماء في حله وحرمته كمسائل العينة والتورق وبعض ما اختلفوا في إباحة أكله كالبغال والحمير , أو اختلف في إباحة شربه كالأنبذة التي لا يسكر قليلها ويسكر كثيرها .
وفي قوله (( لَا يَعْلَمُهُنَّ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ )) إشارة إلى أن بعضا من الناس يعلمها , فمهما اشتبهت المسألة وخفيت فلا بد من وجود علماء في الأمة يعلمونها , فقد تشتبه بعض المسائل حتى على بعض العلماء ولكنها لن تشتبه أبدا عليهم جميعا .
قوله (( فَمَنِ اتَّقَى الشُّبُهَاتِ اسْتَبْرَأَ لِدِينِهِ وَعِرْضِهِ ، وَمَنْ وَقَعَ فِي الشُّبُهَاتِ وَقَعَ فِي الْحَرَامِ )) فقد قسم الناس بالنسبة للمشتبهات قسمين , قسم إستبرأ أي طلب البراءة لدينه وعرضه من التهمة والريبة والنقص , والعرض موضع المدح والذم من الإنسان وقد يكون ذالك نفسه أو سلفه من والديه وأجداده , أو أهله .
وأما القسم الثاني من الناس فلا يستبرئ لدينه وعرضه , فيواقع الشبهات دون حذر وقد قال بعض من السلف من عرض نفسه للتهم فلا يلومن من أساء به الظن .
قوله (( وَقَعَ فِي الْحَرَامِ )) وهذا يفسر بتفسيرين الأول : أن الوقوع في الشبهات ذريعة بلا شك في الوقوع في الحرام , ففي رواية لهذا الحديث مخرجة في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال (( وَمَنِ اجْتَرَأَ عَلَى مَا يَشُكُّ فِيهِ مِنَ الْإِثْمِ، أَوْشَكَ أَنْ يُوَاقِعَ مَا اسْتَبَانَ )) , ومعنى (( يواقع ما استبان )) أي ما استبان أنه من الحرام المحض .
والتفسير الثاني لقوله وقع في الحرام , أي أن الذي لا يتقي الشبهات فيقع فيه قد يكون ذالك المشتبه به حراما فيقع في الحرام .
قوله (( كَالرَّاعِي يَرْعَى حَوْلَ الْحِمَى يُوشِكُ أَنْ يَرْتَعَ فِيهِ )) وهذا مثل مثل به حال من يقع في الشبهات .
قوله (( أَلَا وَإِنَّ لِكُلِّ مَلِكٍ حِمَى ، أَلَا وَإِنَّ حِمَى اللَّهِ مَحَارِمُهُ )) والحمى ما يحميه الملوك فيمنعون الناس من الإقتراب منه , وقد جعل النبي حمى حول المدينة لا يصاد منه ولا يقطع منه شجر , وحمى عثمان وعمر أماكن لأجل أن ترعى فيها إبل الصدقة .
فالنبي صلى الله عليه وسلم شبه المحرامات التي حرمها الله عز وجل بالحمى الذي يحميه الملوك . وقد قال الله تعالى (( تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَقْرَبُوهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ)) , فينبغي للإنسان أن يجعل بينه وبين الحرام مباعدة فلا يقربه , فإن اقترب منه فهو جدير بالوقوع فيه .
وقد جاء عند الترمذي وابن ماجة عن عبد الله بن زيد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال (( لَا يَبْلُغُ الْعَبْدُ أَنْ يَكُونَ مِنَ الْمُتَّقِينَ حَتَّى يَدَعَ مَا لَا بَأْسَ بِهِ حَذَرًا مِمَّا بِهِ بَأْسٌ )) .
فالراعي الذي يرعى بغنمه حول الحمى , فإن الغنم إذا رأت هذه المحمية مخضرة صعب منعها والتحكم فيها وستدخل هذا الحمى كذالك النفس إذا اقتربت إلى الحرام بالوقوع في الشبهات فإنه يصعب منعها منه .
قوله (( أَلَا وَإِنَّ فِي الْجَسَدِ مُضْغَةً إِذَا صَلَحَتْ صَلَحَ الْجَسَدُ كُلُّهُ ، وَإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ الْجَسَدُ كُلُّهُ ، أَلَا وَهِيَ الْقَلْبُ )) فالقلب كالملك والأعضاء جنود له , فإذا استقام القلب استقامت الأعضاء فبعدت عن الحرما والشبهات . فإذا كان القلب يسعى لإرادة الله عز وجل وحده فهو قلب سليم , وإذا كانت حركته وإرادة لغير الله عز وجل فهو قلب غير سليم .
فوائد من حديث الحلال بين والحرام بين
- تنقسم أمور الدين إلى ثلاثة أقسام , حلال بين لا حرج في الوقوع فيه , حرام بين يحرم الوقوع فيه , وأشياء تشتبه على العبد أهي من الحلال أم من الحرام
- أسباب الإشتباه أربع قلة العلم وقلة الفهم والتقصير في التدبر وأسوأها سوء القصد .
- لا يمكن أن يكون في الشرع شيئ لا يعلمه كل الناس .
- الأصل كراهة الوقوع في الشبهات لأن الإبتعاد عنها من الورع , قال القرطبي (( ودليل الحل : أن الشرع أخرجها من قسم الحرام، وأشار إلى أن الورع تركها بقوله صلى اللَّه عليه وسلم: "دع ما يريبك إلى ما لا يريبك" )) , فإن كانت مؤدية للحرام فيحرم الوقوع فيها لأنها ذريعة إليه .
- من فوائد وجود المشتبهات في الشرع أن يتبين ممن يسعى لطلب العلم ممن لا يسعى لذالك . فبالعلم يزول الإشتباه عن كثير من الأشياء .
- من أساليب التعليم المفيدة والموضحة ضرب الأمثلة المحسوسة .
- ذكر النبي صلى الله عليه وسلم للحمى لا يعني أن وضعه حلال , وقد قسم الشيخ العثيمين الحمى قسمين قسم حلال وهو الحمى الذي تكون المصلحة منه عامة كأن تحمى الأرض لدواب المسلمين أو لدواب الصدقة , وقسم محرم وهو ما كانت المصلحة منه خاصة فليس له أن يمنع ما يشترك فيه الناس كالكلإ .
- يستدل كثير من العلماء بهذا الحديث إلى مشروعية سد الذرائع والوسائل المؤدية للمحرمات .
- حث النبي صلى الله عليه وسلم على الإهتمام بصلاح القلب وتنقيته فهو أساس بقية الأعضاء .