تأملات ونظرات في قوله تعالى (( نسوا الله فأنساهم أنفسهم ))
هذه الآية هي الآية 19 من سورة الحشر إذ يقول الله عز وجل فيها (( وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنسَاهُمْ أَنفُسَهُمْ أُوْلَئِكَ هُمُ الفَاسِقُونَ )) [الحشر : 19] . وهي جليلة الشأن عظيمة القدر عند المؤمنين الأتقياء .
هذه الآية من كتاب الله تعالى تحدثنا عن قضية مهمة , بل عن حقيقة كبرى من حقائق الكون التي غفل عنها كثير من الناس وهي تضع أيدينا على حقيقة كبرى من حقائق هذا الوجود التي ينبغي لنا أن نقف معها .
نسيان الله عز وجل قضية خطيرة , إنها نسيان للخالق والمنعم والرازق والرحيم وصاحب القدرة التامة والعلم الكامل , تعالوا لنتأمل سياقها فالخير كل الخير في تدبرها قال تعالى :
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ
يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَاللَّهُ رَؤُوفٌ بِالْعِبَادِ
ولستُ أرى السعادةَ جمعَ مالٍ ... ولكنَّ التقيَّ هو السعيدُفتقوى الله خيرُ الزاد ذُخرًا ... وعندَ اللهِ للأَتْقى مَزيدُ
ثم انتقل المولى سبحانه لوصف طائفة ثانية , وهي الطائفة التي لم تتزود بالتقوى فهي ناسية لله عز وجل , فنهى عباده المؤمنين أن يكونوا مثلهم فقال (( وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ )) , ونسيان الله عز وجل يكون بإحى صورتين :
الأولى : ففي هذا المستوى قد تجد الرجل مطيعا حريصا على بعض من وجوه الخير , ولكنه ضعيف الأحاسيس والمشاعر نحو الخالق سبحانه وتعالى , فلا تجده محبا لله سبحانه ذاكرا له , فالمحب يظل ذاكرا لله سبحانه مستحضرا نيته مخلصا له , قال تعالى (( ولا تُطِعْ من أَغْفَلْنَا قلبه عَنْ ذِكْرِنَا وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا )) , فالذكر حياة للقلب صلة محكمة بين العبد والرب , تأمل قول النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح :
إِنَّ اللَّه تَعَالَى قَالَ : منْ عادى لي وَلِيّاً. فقدْ آذنتهُ بالْحرْب. وَمَا تقرَّبَ إِلَيَ عبْدِي بِشْيءٍ أَحبَّ إِلَيَ مِمَّا افْتَرَضْت عليْهِ : وَمَا يَزالُ عَبْدِي يتقرَّبُ إِلى بالنَّوافِل حَتَّى أُحِبَّه، فَإِذا أَحبَبْتُه كُنْتُ سمعهُ الَّذي يسْمعُ بِهِ، وبَصره الَّذِي يُبصِرُ بِهِ، ويدَهُ الَّتي يَبْطِش بِهَا، ورِجلَهُ الَّتِي يمْشِي بِهَا، وَإِنْ سأَلنِي أَعْطيْتَه، ولَئِنِ اسْتَعَاذَنِي لأُعِيذَّنه رواه البخاري.
الثانية : وأما الصورة الثانية من النسيان هي الإعراض عن هديه وشرعه , وهذه صورة هي أخطر من الأولى وفيه يكون العبد معرضا عن الله بالفعل والقلب , فجوارحه منغمسة في معصية الله عز وجل لا يبالي إن عصى الله أو أطاعه , فالمعصية والطاعة عنده سيان , وكذا فأحاسيسه متبلدة جامدة نحو ربه , بل إن الإستمرار على هذه الهيئة من النسيان قد يورده المهالك , فيطبع الله على قلبه ومن يهن الله فما له من مكرم .
بعد ذالك يوجهنا الله عز وجل إلى طريقة العلاج , إن علاج النسيان يكون بذكر الله عز وجل والعيش مع القرآن الكريم , فقد قال بعد التوجيه والتحذير :
لَوْ أَنزَلْنَا هَٰذَا الْقُرْآنَ عَلَىٰ جَبَلٍ لَّرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُّتَصَدِّعًا مِّنْ خَشْيَةِ اللَّهِ ۚ وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ
كلام جميل لابن القيم عن آية نسو الله فأنساهم أنفسهم
(( فالعلم بذاته سبحانه وصفاته وأفعاله يستلزم العلم بما سواه ؛ فهو في ذاته رب كل شيء ومليكه ، والعلم به أصل كل علم ومنشؤه فمن عرف الله عرف ما سواه ، ومن جهل ربه فهو لما سواه أجهل .
قال تعالى: "ولا تكونوا كالذين نسوا الله فأنساهم أنفسهم" , فتأمل هذه الآية تجد تحتها معنىً شريفاً عظيماً وهو أن من نسي ربه أنساه ذاته ونفسه فلم يعرف حقيقته ولا مصالحه بل نسي ما به صلاحه وفلاحه ومعاشه ومعاده ؛ فصار معطلاً مهملاً بمنزلة الأنعام السائبة ، بل ربما كانت الأنعام أخبر بمصالحها منه لبقائها على هداها الذي أعطاها إياها خالقها.
وأما هذا فخرج عن فطرته التي خلق عليها فنسي ربه فأنساه نفسه وصفاتها وما تكمل به وتزكو به وتسعد في معاشها ومعادها . قال الله تعالى " ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا واتبع هواه وكان أمره فرطا ". فغفل عن ذكر ربه فانفرط عليه أمره وقلبه ؛ فلا التفات له إلى مصالحه وكماله وما تزكو به نفسه وقلبه ، بل هو مشتت القلب مضيعه مفرط الأمر حيران لا يهتدي سبيلاً ))